الجمعة، 09 مايو 2025

02:50 م

مصطفى صلاح

مصطفى صلاح

A A

بوسي شلبي في ميزان الغيب.. بين عدالة الأرض وعدالة السماء

تُغلق القضايا في المحاكم، تُرفع الجلسات، وتُنطق الأحكام.. لكن بعض القضايا لا تنتهي حتى بعد أن يسدل الستار، فثمّة محاكم لا تعترف بتقادم الزمن، ولا تغلق أبوابها بعد الخامسة مساءً، ولا يُعلَن فيها حكمٌ بالنقض. محاكم تقام في ضمير الله الذي لا يغيب، وفي سجلّاته التي لا تُمحى، وفي ميزانٍ دقيق لا يميل إلا إلى الحق.

الناس منذ أيام يتحدثون. همسٌ هنا، ولغطٌ هناك، وسيلٌ من التأويلات والاتهامات يجتاح الشاشات والمنصّات، ويأخذ من الوقت والقلوب أكثر مما ينبغي. لا أحد يسأل: "ما الذي يجعل الإنسان يُصبح مادةً على موائد الفضول؟" بل يسأل الناس: "هل كانت زوجةً حقاً؟ وهل فارقها حيًا أم ميتًا؟" وكأنهم يبحثون عن شيء يُشبع شغفًا دفينًا لجرح القلوب لا لشفائها.

القصة التي ضجّت بها الألسن تعود إلى سيدة إعلامية عرفت الشاشات أكثر مما عرفت الراحة، ورجلٍ رحل جسدُه وظلّت روحه ترفرف في بيوت المصريين وفي ذاكرة الفن العربي.. الحديث عن الإعلامية بوسي شلبي، وعن الفنان الراحل محمود عبد العزيز، ليس حديثَ قضيةٍ قانونية، بل حديث ضمائر على المحكّ.

لا يهم كثيرًا، في ميزان الله، من يحمل مستندًا أو من يملك أوراقًا أو عقودًا. فالله لا يُحاسب بالورق، بل بالنيات. وإذا كان للقضاء الأرضي أن يفصل ويحكم، فللسماء شأن آخر. وإذا كان حكم القاضي قد أراح أحدهم في الدنيا، فماذا عن عذاب القلب حين يُدرك الإنسان أنه قد شارك، ولو بكلمة، في الطعن في عرض امرأة، أو النيل من سيرة رجل رحل ولم يعد له لسان يردّ به؟ أليس هذا من أعظم البلاء؟

تساءل البعض بفضول يُشبه الحطب حين يشتعل: "هل كانت زوجته شرعًا؟"، و"هل خدعت الجميع؟"، وكأن المسألة صفقة تجارية، لا رابطة إنسانية ولا ميثاق غليظ. ما أشبه قلوب بعض الناس اليوم بالفراغ، لا يملؤها إلا الظن، ولا تُروى إلا من نهر الشائعات.

يا من تسابقتم إلى نشر الكلام وترويجه، هل نسيتم قول الله تعالى: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم"؟ ألا تخشون أن تكونوا من هؤلاء وأنتم تقذفون امرأة بكلمةٍ أو تعليق؟ بل، أيُّ راحةٍ تُرجى من الطعن في رجلٍ تحت التراب، لا يملك لنفسه دفعًا ولا دفعًا عمّن كان يسكن قلبه؟

الراحل محمود عبد العزيز، لم يكن مجرّد فنان، بل كان صوتًا ناعمًا للحياة في قسوتها، وحضورًا هادئًا في عالمٍ يعجّ بالضجيج. فهل يُعقل أن يُختزل تاريخه الطويل بسؤال سطحي عن زواجٍ أو طلاق؟ ألا يملك منّا بعض الوفاء لمن منحنا الضحكة في زمنٍ عزّ فيه الفرح؟

ثم ما ذنب امرأة، أحبّت رجلًا حتى النهاية، ووقفت في وداعه وحدها كأنها آخر جنوده، أن تُرمى بعد أعوامٍ بتهمة الخداع؟ وأيّ قلبٍ لا يضطرب حين يرى إنسانة تُذبح على الملأ بسكاكين القيل والقال، دون أن يجد من يقول: "كفى"؟

إنّ القضاء إذا أنصف، فقد انتهى الأمر في الدنيا، أما إذا ظلم، فالله أعدل وأبقى. وعدله لا يُدفع بالمال ولا يُستأنف. كل كلمة كتبها أحدهم في تعليقٍ، كل همسة أطلقتها شفتا غافل، كل نظرة اتهام وجّهت إلى امرأة محصنة، سيأتي يومها، وسيُكتب في صحيفةٍ لا تغفل عنها السماء.

من أحبّ محمود عبد العزيز حقًا، فليدافع عن سمعته لا أن يُدنسها بالشكوك. ومن عرف بوسي شلبي بحق، فليخفف عنها لا أن يجلدها بكلامٍ لا تُطيقه الجبال. لا أحد يعلم ما جرى بين اثنين إلا الله. وإن كانت المحاكم قد خُصصت لتقول كلمتها في العقود، فإن القلوب وحدها تعرف من كان وفيًا، ومن عاش ومات على العهد.

يا من تتلذذون بالخوض في أعراض الناس، تذكروا أن العرض إن سقط، لا تقوم له قائمة. وتذكروا أن من يُشارك في إشاعة الفتنة، ولو بكلمة، فإن عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. لا تتحدثوا في ما لا يعنيكم، فأنتم لا تحملون ميزان الله، ولا تعرفون ما خفي من النيات.

كفّوا ألسنتكم، واستروا ما استطعتم، لعلّ الله يستركم يوم لا ينفع الندم. فكم من كلمة قتلت قلبًا، وكم من نظرة شوّهت سيرة، وكم من فضول أشعل نارًا لا تخمد.

ليس كل ما يُقال يُصدّق، وليس كل ما يُقال يجوز. وبعض الصمت في حضرة الموت، وفي حضرة الذكرى، أبلغ من ألف بيان.

search