الجمعة، 13 يونيو 2025

11:18 م

فتحي حسين
A A

في يوم الصحفي.. عن الصحفيين لا عن الصحافة!

اليوم هو يوم الصحفي. مناسبة رسمية تقول إن الدولة - أو من يمثلها - تتذكر أن هناك مهنة اسمها الصحافة، وأن هناك بشرًا يعملون فيها. لكننا، نحن أبناء المهنة، نعرف أن الاحتفال ليس عن الصحافة في حد ذاتها، بل عن المتناقضات التي تسكنها، وعن الأشخاص الذين يصنعون واقعًا يناقض ما ترفعه المهنة من شعارات!
فالصحافة - يا سادة- تنادي بالعدالة الاجتماعية، وتملأ صفحاتها بقصص المظلومين، وتفتح صدرها لقضايا المستضعفين. لكنها، في أروقة مؤسساتها، تسحق أبناءها المخلصين بلا رحمة. صحفي يكد ويتعب ويكتب ويحترق، ثم يُكافأ بالإقصاء أو بالتجميد أو بتهميش لا يليق حتى بموظف أرشيف، لا ذنب له سوى أنه لا يجيد فن "المجاملة".
والصحافة - ويا للعجب- هي حارسة الحريات، هكذا تعلمنا. لكنها تضطهد كل صحفي حر، كل من يملك رأيًا لا يُعجب "البيك الكبير" أو "المعلم صاحب القرار". إذا كنت تُفكر بعقلك، وترفض أن تكون ترسًا في ماكينة التطبيل، فمكانك الطبيعي ليس في صالة التحرير، بل على رصيف البطالة... أو في زنزانة التأديب المهني!

والصحافة - كما تدّعي- لا تعترف إلا بالكفاءة، وتفتح أبوابها أمام أصحاب الموهبة والفكر والرؤية. أما الواقع، فيخبرنا أن المناصب تُمنح لأصحاب "الربع موهبة" و"نصف ضمير" وكامل الولاء. من يجيد الانبطاح، يجد لنفسه كرسيًا مذهبًا... ومن يجيد الوقوف، فمكانه معروف: خارج المشهد.

وتنادي الصحافة بالمساواة... لكنها تعيش على مبدأ "شِلّتي أولى". صحفيون لا يُقاسون بكفاءتهم، بل بدرجة القرابة من رئيس التحرير، أو بعدد المرات التي قالوا له فيها "يا فندم أنت عبقري".

والزملاء الحقيقيون، الذين يؤمنون بالمهنة لا بالأشخاص، يُعاملون كأنهم أبناء الزوجة الثانية!
ثم تقول الصحافة إنها تبحث عن عالم أفضل، عن المدينة الفاضلة... لكن من يعملون فيها – بعضهم طبعًا– يحملون خناجر خلف ظهورهم، يطعنون بها أقرب الناس إليهم. ما بين زميل "بيجاملك قدامك وبيبلغ عنك وراك"، وآخر "بياخد فكرتك وينسبها لنفسه"، تصبح الصحافة مشهدًا دراميًا طويلًا، ينقصه فقط موسيقى تصويرية حزينة.

الصحافة يا سادة، ليست مهنة المتاعب كما يقولون، بل مهنة القهر الداخلي. الصحفي المحترم، الذي يحب المهنة، ويمارسها بإخلاص، هو أكثر من يتعرّض للخذلان. مش لأنه “مش كفء”
، بل لأنه ببساطة مش تابع، مش مريح، مش من نوعية "ما تقوليش رأيك وخليك في شغلك".

والمأساة زادت بعد 2011. تحولت بعض المؤسسات إلى سجون معنوية. كل من لا يصفق يُتهم بالخيانة. كل من يعترض يُعزل. لدينا من القصص ما يكفي لكتابة مجلدات... ومجلدات من الصمت.

لكن... وعلى الرغم من كل شيء... لا يزال بيننا من يعافر، من يكتب لأن الكتابة جزء من دمه، من يواجه كل يوم بابتسامة حتى لو كانت مزيفة. من قرر ألا يترك المهنة تنهار رغم أنها خذلته كثيرًا.
في يوم الصحفي... التحية ليست للمهنة، بل لمن يقاوم من أجل بقائها نقية. تحية لمن يرفض أن يكون "بوقًا"، ويختار أن يكون "ضميرًا". تحية لمن ما زال يكتب، لا لأنه يُعجب أحدًا، بل لأنه لا يستطيع أن يصمت.
وإن ضاقت الأرض، فالصحفي الحر لا يضيق. يضيق به المكان، لكن لا يضيق بالكرامة. ومع كل هذا... نحن لا ندعو لليأس، بل للإصلاح. لا نكتب هذه السطور لنجلد المهنة، بل لنكشف من خرّبوها باسمها. فالصحافة لا تزال تستحق منّا أن نؤمن بها، لا لأن واقعها وردي، بل لأننا نعرف كيف يكون شكلها الحقيقي حين تُترك للكفاءات لا للشلل، وللمخلصين لا للمنافقين.

ربما يطول الطريق، وربما يستمر القهر لبعض الوقت، لكن المؤكد أن المهنة لا تموت. ما دام هناك من يكتب بإخلاص، ومن يرفض التزييف، فثمة فرصة دائمة لإعادة الروح.

في يوم الصحفي، لا ننتظر ورودًا على المكاتب ولا لافتات على الجدران، بل ننتظر أن تُعاد الأمور لأهلها، أن يُرد الاعتبار لمن يستحق، وأن يصبح للصحفي الحر مكان في بلده... لا في الظل.

ولحين يأتي هذا اليوم... سنبقى نكتب، ونحلم، ونعافر، ونبتسم... ولو كانت ابتسامتنا من دم.

search