
اللاشيء مؤثرًا... خطر "الترند" على أسرنا المرهقة
لم نعد نعيش في عالم يتزاحم فيه أصحاب الفكر والرؤية كي يُسمع صوتهم وسط ضجيج الواقع، بل في زمن أصبح فيه الضجيج نفسه صوتًا، والفراغ مادةً قابلة للبثّ والتداول، والسطحية بطاقة عبور إلى العقول.
من يتابع مشهد السوشيال ميديا اليوم، لا يحتاج لكثير من التأمل كي يدرك أن منابر التأثير لم تعد تُمنح للأكثر فكرًا، بل للأكثر إثارة، لا للأكثر نفعًا، بل للأكثر قدرة على افتعال ضجيج مؤقت يُدر ربحًا عاجلًا، وإن كان على حساب العقل، والذوق، وقيم المجتمع.
ظهر على السطح جيل جديد من “المؤثرين” لا يملكون من أدوات التأثير إلا الجرأة على الظهور بلا مضمون. تحوّلت المنصات إلى مسارح مفتوحة لمن لا يحملون رسالة، ولا يحترفون سوى اصطناع “الترند”، ولو كان في جوهره تهكّمًا على القيم، أو تسطيحًا للعقل، أو عبثًا بوعي المتابعين. هؤلاء لا يُديرون حوارًا، بل يفتعلون ضجة، لا يُقدّمون فكرًا، بل يُمارسون لهوًا مدفوع الأجر. والأدهى من ذلك: أنهم أصبحوا مرآة لصورة النجاح السريع، ولو من باب اللهو والتفاهة.
أن يتحول “اللا محتوى” إلى مصدر ثروة، ويغدو العبث مهنة يعتاش منها البعض، فتلك واحدة من صور الإحباط التي لا يُمكن إنكارها في حياة الشباب الطامحين، أولئك الذين تخرّجوا وتسلحوا بالعلم، انتظروا فرصتهم في وظيفة تحفظ كرامتهم، فإذا بالمشهد العام يوصل إليهم رسالة صادمة: لست بحاجة إلى كفاءة، بل إلى هاتف، وقليل من الجرأة على إضاعة وقت الآخرين.
تسقط القيمة من العمل الجاد حين يُقابله الصمت والتجاهل، بينما يُكافأ من يعبث ويُثير بوهج زائف. وتبدأ خيبة الأمل تسري في العروق، حين يشعر الشباب أن الكفاءة بلا جدوى، وأن الدراسة لا تساوي ما تحققه “رقصة” على تيك توك، أو مشهد مصطنع تتداوله المنصات تحت مسمى "الترند".
الحديث عن مخاطر هؤلاء لا يتوقف عند حدود الشباب الباحثين عن وظيفة، بل يتغلغل في نسيج الأسر نفسها. لقد تسلّل هذا النوع من "القدوات" إلى غرف الأطفال والمراهقين، وباتوا هم المرجع، والمثال، ومصدر تقليد، دون وعي بمدى خطورة ما يُروج له هؤلاء من أفكار مختلة، ونماذج خالية من العمق أو الانضباط أو القيمة.
بالنسبة للرجل، يجد نفسه في مرمى مقارنة قاسية، إذ يُطالب بأن يكون "ناجحًا" على طريقة من يجنون المال من لا شيء، في حين أنه قد يبذل جهدًا شاقًا في وظيفته ولا يحقق نصف ما يحققه "يوتيوبر" يُضحك الناس بلا رسالة. يشعر بالعجز، وبفقدان القيمة، وربما بالعجز عن إرضاء من حوله ماديًا، رغم كل ما يبذله.
أما المرأة، فتجد نفسها ممزقة بين عالمين: عالم القيم الذي نشأت عليه، وعالم "المؤثرات الجدد" ممن يصدرن صورة للأنثى تُقاس بمدى إثارتها البصرية لا الفكرية، ويُحتفى بها كلما اقتربت من صورة الاستعراض الجسدي أو المادي، لا كلما امتلكت عمقًا أو وعيًا. ويُصيبها هذا التمزق بالإرباك، وربما بفقدان الثقة في ذاتها ومسارها، خاصة إذا وجدت أن "المحتوى القيم" لا يُشاهد، بينما "التفاهة المصفوفة جيدًا" تحصد آلاف الإعجابات.
وأما الأبناء، فهم الضحية الأبرز. يُربّون على يد آباء يتحدثون عن القيم، ويُشاهدون قدوات تتحدث بلغة النكات السطحية، والثرثرة المصورة، والشهرة المبنية على "إزعاج رقمي". فينشأ الطفل في بيئة مزدوجة: بيت يُعاقبه حين يخطئ، وتيك توك يُصفق للخطأ طالما أنه جذّاب ويحقق تفاعلًا.
ولعلّ الأخطر، حين يمتد هذا التأثير إلى العلاقة بين الرجل والمرأة، إذ تتسلل المقارنات الصامتة من خلف الشاشات إلى تفاصيل البيوت. تصبح صورة "الزوجة المثالية" أو "الرجل الناجح" مستنسخة من شخصيات لا تمثل الواقع أصلًا، بل تمثل سيناريوهات مصطنعة أُعدّت فقط لتُشاهد.
تُصاب العلاقة العاطفية بالتوتر، حين يرى كل طرف الآخر بعين المقارنة مع ما يراه عبر هاتفه. تُصبح التوقعات عبئًا، والرضا صعبًا، والتفاهم مستحيلًا. تبهت مشاعر الامتنان، وتغيب التفاصيل البسيطة التي تصنع المعنى الحقيقي للعلاقة، لتحل محلها صور لواقع مزيف لكنه "مؤثر" بصريًا.
لم نعد نواجه خطر تراجع القيم فقط، بل خطر إعادة تعريف "القيمة" نفسها. نحن أمام أزمة أخلاقية تتخفى خلف الشاشات، وتنتشر كلما ارتفع التفاعل وتضخمت الأرباح. لسنا ضد التكنولوجيا، ولا نرفض أن تكون المنصات منابر للرأي والتعبير، ولكننا نُحذر من أن تصبح هذه المنصات ساحة مفتوحة لمن لا يملكون من التأثير إلا القدرة على الهدم، لا البناء.
ما نحتاجه ليس فقط رقابة قانونية، بل رقابة مجتمعية ووعيًا جماعيًا يعيد الاعتبار للفكر والجهد والقيمة. فما لا يُبنى على وعي، لا يمكن أن يُعدّ نجاحًا، ولو أسموه "ترند". وما لا يحمل رسالة، لا يستحق أن نمنحه هذا الكم من الوقت والانتباه.

الأكثر قراءة
-
"مقدرش أديلك حاجة".. الذكاء الاصطناعي "يطحن خواطر" أحمد بدير قبل 30 عامًا
-
هل يواصل الدولار هبوطه وصولًا إلى 41 جنيهًا؟.. خبير اقتصادي يجيب
-
"تفاهة وانحلال".. محامون يحاصرون البلوجر "سلمى الرحالة" بـ90 بلاغًا
-
فيروس شيكونغونيا.. حشرة مصرية تُعرض الصين لخطر جائحة جديدة
-
موعد حفل الكرة الذهبية 2025 والقنوات الناقلة
-
الاقتصاد القياسي والتحليل الكمي.. عماد القرار في عصر البيانات
-
شباب إسنا يرسمون البهجة على وجوه أطفال مرضى السرطان (صور)
-
أسوة بالسجون.. مقترح جديد لتسريع إخلاء وحدات الإيجار القديم
أكثر الكلمات انتشاراً