
المجر في مرمى "المساءلة" من المحكمة الجنائية الدولية
اتخذت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية قرارًا يقضي بعدم امتثال المجر في 24 يوليو 2025، وذلك نتيجة لفشلها الذريع في اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عندما كان في زيارة رسمية لها في الفترة من 3- 6 أبريل 2025، وهي دولة طرف في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.
وآية ذلك، أن المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت في نوفمبر 2024 بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، كما رفضت في 16 يوليو 2025 إلغاء هذه المذكرات بناءً على الطلب الذي قدمته إسرائيل.
لهذا، بادرت المحكمة الجنائية الدولية- وتحديدًا الدائرة التمهيدية الأولى-، أثناء زيارة نتنياهو للمجر، بتقديم طلب رسمي للسلطات المجرية من أجل القبض الاحتياطي عليه بموجب المادة (92) من نظام روما الأساسي، التي تُخوّل المحكمة سلطة إصدار طلبات للقبض الاحتياطي على شخص مطلوب بموجب أمر اعتقال صادر عنها، حتى قبل تقديم طلب التسليم الرسمي بموجب المادة (91).
غير أن السلطات المجرية لم تتخذ أي إجراء يُذكر، بدعوى ما يتمتع به نتنياهو من حصانة سيادية. والواقع، يُعد هذا الامتناع من جانب المجر عن التعاون مع المحكمة إخفاقًا صارخًا في الالتزام بالواجبات المنصوص عليها في نظام روما الأساسي، إذ يشكل انتهاكًا للالتزام الأساسي بالتعاون التام المنصوص عليه في المادة (86) من هذا النظام، وخرق واضح للمادة (92) المتعلقة بالقبض الاحتياطي.
وقد حاولت المجر أن تخرج من هذه المعضلة من خلال الإعلان عن بدء إجراءات انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية قبل وصول نتنياهو إلى بودابست. غير أن هذا الإنسحاب لن يكون نافذًا إلا بعد مرور سنة من تاريخ الإخطار به بموجب نص المادة (127) من النظام الأساسي، التي جاء فيها "لأية دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يوجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، ويصبح هذا الانسحاب نافذًا بعد سنة واحدة من تاريخ تسلم الإخطار، ما لم يحدد الإخطار تاريخًا لاحقًا لذلك". وهذه الشروط الواردة في المادة المذكورة لنفاذ الانسحاب قد دفعت المحكمة للتأكيد على أن المجر تظل ملزمة بجميع واجباتها بموجب النظام الأساسي حتى يصير الانسحاب نافذًا.
ولا يخفى أن الالتزام بالتعاون الكامل مع المحكمة الجنائية الدولية هو حجر الزاوية لفعالية نظام العدالة الجنائية الدولية، وهو التزام منصوص عليه بوضوح في المادة (86) من نظام روما الأساسي، التي تنص على "تتعاون الدول الأطراف، وفقًا لأحكام هذا النظام الأساسي، تعاونًا تامًا مع المحكمة فيما تجريه، في إطار اختصاص المحكمة، من تحقيقات في الجرائم والمقاضاة عليها".
ومن الجلي أن هذه المادة تشير إلى أن الالتزام بالتعاون يشكل في حد ذاته التزامًا قانونيًا دوليًا مباشرًا وغير مشروط على كل دولة صدقت أو انضمت لنظام روما الأساسي. إذ لا ينبع هذا الالتزام من ضغط خارجي، بل هو نتاج الإرادة الحرة للدول الأطراف في النظام الأساسي، لمكافحة الإفلات من العقاب على أشد الجرائم خطورة من خلال العمل الجماعي والتعاون الدولي.
أضف إلى ذلك أن عبارة "تعاونًا تامًا" الواردة في النص تدل بشكل لا لبس فيه على أن نطاق المساعدة المطلوبة من الدول الأطراف واسع وشامل، إذ لا يقتصر التعاون على تنفيذ أوامر القبض والتسليم، بل يمتد ليشمل مجموعة متنوعة من أشكال المساعدة الإجرائية الضرورية لضمان سير العدالة مثل: جمع الأدلة، وحماية الضحايا والشهود، واستجواب الأشخاص، وعمليات التفتيش والضبط، وتنفيذ الأحكام.
ومن ناحية أخرى، فإن المادة 92(1) من نظام روما الأساسي تمثل أداة إجرائية حيوية تُمكّن المحكمة من اتخاذ إجراءات سريعة لضمان القبض على الأشخاص المطلوبين، خاصة عندما تكون هناك حاجة ملحة لذلك، حيث تنص هذه المادة على "يجوز للمحكمة في الحالات العاجلة أن تطلب إلقاء القبض احتياطيًا على الشخص المطلوب، ريثما يتم إبلاغ طلب التقديم والمستندات المؤيدة للطلب على النحو المحدد في المادة 91". وهو ما يعني أن الشرط الجوهري للجوء إلى القبض الاحتياطي هو وجود ضرورة ملحة كالخشية من هروب المشتبه به أو استمرار ارتكاب الجرائم، ويعني كذلك أن القبض عبارة عن إجراء للاحتجاز المؤقت وليس تسليمًا نهائيًا، إذ أن الهدف منه هو تأمين وجود الشخص لحين استكمال الإجراءات، وحتى تتمكن المحكمة من إعداد وتقديم طلب التسليم الرسمي بموجب نص المادة (91) من النظام الأساسي.
لذلك، ونتيجة لتقاعس المجر عن تنفيذ هذه الالتزامات السابق الإشارة إليها، قامت الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة الجنائية الدولية، في 16 أبريل 2025، بالشروع رسميًا في إجراءات عدم الامتثال ضدها، بموجب المادة 87(7) من نظام روما الأساسي، التي تُخوّل المحكمة إمكانية اتخاذ خطوات لمعالجة عدم تعاون الدول الأطراف.
وقد تضمنت الخطوة الأولى في هذا السياق، قيام المحكمة بتقديم دعوة للمجر من أجل إعداد مذكرة توضيحية مفصلة بحلول 23 مايو 2025، تُبيّن فيها الأسباب القانونية والعملية التي حالت دون تنفيذ طلب القبض الاحتياطي.
وفي مذكرتها التوضيحية، بررت المجر موقفها من خلال حجتين رئيسيتين: (الحجة الأولى) أن قوانينها الداخلية لا تسمح بمثل هذا الاعتقال؛ (الحجة الثانية) أن نتنياهو يتمتع بالحصانة لأنه يُمثل إسرائيل، وهي دولة ليست طرفًا في نظام روما الأساسي.
غير أن المحكمة رفضت بشكل صريح تبريرات المجر، مؤكدة على أن "غياب أو عدم كفاية التشريعات الداخلية التنفيذية لا يمكن أن يبرر عدم امتثال الدول الأطراف لالتزاماتها بموجب النظام الأساسي".
علاوة على ذلك، أشارت المحكمة إلى نقطة بالغة الأهمية وهي أن المجر لم تبذل أي جهد لإبلاغ المحكمة بالتعارض المزعوم في الالتزامات عندما تلقت الطلب، أي أنها لم تتعاون بشفافية وحسن نية مع المحكمة، وهو ما جعل الدائرة التمهيدية الأولى تقر بأن المجر قد فشلت بشكل قاطع في الإذعان لالتزاماتها الدولية بموجب نظام روما الأساسي، ومن ثم أصدرت قرارًا رسميًا بعدم الامتثال، وأحالت المسألة إلى جمعية الدول الأطراف بموجب نص المادة 87(7).
وتهدف هذه الإحالة إلى تفعيل الآليات الدبلوماسية والسياسية المتاحة لضمان احترام الدول الأطراف لالتزاماتها الدولية. فالمحكمة، كهيئة قضائية، لا تمتلك آليات تنفيذ قسرية خاصة بها، إذ تعتمد بشكل كبير على تعاون الدول الأعضاء. وتُمثل جمعية الدول الأطراف الهيئة الإدارية الرقابية والتشريعية للمحكمة الجنائية الدولية، وتضم جميع الدول التي صدقت على نظام روما الأساسي، وهي المسؤولة عن اتخاذ التدابير المناسبة في حالات عدم الامتثال التي تُحال إليها، والتي قد تتمحور حول إصدار إدانات رسمية، أو حث الدولة غير المتعاونة على الامتثال الفوري، أو حتى النظر في فرض تدابير دبلوماسية أو سياسية أخرى لضمان احترام القانون الدولي. وقد يكون للضغط الدبلوماسي والسياسي الناتج عن إدانتها، تأثير كبير على سمعة الدولة ومكانتها في المجتمع الدولي.
ومما هو جدير بالذكر، أن رفض المجر التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية لم يكن السابقة الأولى من نوعها. فالمحكمة واجهت تحديات مماثلة، بل وأكثر تعقيدًا، في قضايا سابقة، أبرزها تلك المتعلقة بالرئيس السوداني السابق عمر البشير. فقد أصدرت المحكمة، وتحديدًا الدائرة التمهيدية الأولى، مذكرتي اعتقال بحق عمر البشير في عامي 2009 و 2010، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية في دارفور بناءً على إحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بمقتضى قراره رقم 1593 (2005) الصادر بموجب الفصل السابع من الميثاق.
ولكن على الرغم من الطبيعة الإلزامية لقرار مجلس الأمن الدولي المشار إليه، إلا أن المحكمة أخفقت في تنفيذ أوامر الاعتقال بحق البشير، خاصة عندما زار كلًا من أوغندا والأردن، وهما طرفان في النظام الأساسي.
وقد واجهت الدائرة التمهيدية الأولى هذا المأزق بإصدار قرارات رسمية بعدم امتثال كل من أوغندا والأردن، وقامت بإحالة الأمر إلى جمعية الدول الأطراف، وكذلك إلى مجلس الأمن الدولي، نظرًا لأن ولاية المحكمة في قضية دارفور كانت بناءً على قرار صادر من المجلس. وكانت تهدف هذه الإحالات إلى ممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي على الدول غير الممتثلة وحماية نزاهة إجراءات المحكمة.
غير أن الأردن استأنف هذا القرار في عام 2019، فقررت دائرة الاستئناف بأغلبية القضاة نقض قرار الدائرة التمهيدية بإحالة المسألة إلى مجلس الأمن وجمعية الدول الأطراف. أما أوغندا، فلم يفرض مجلس الأمن الدولي عليها أي جزاء بموجب قرار الإحالة، حيث اقتصر الأمر على مناقشة المسألة، والدعوة إلى ضرورة الامتثال لأوامر المحكمة وقراراتها.
وحقيق التنويه إلى أن حالات عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ طلبات الاعتقال تمثل تهديدًا وجوديًا لمصداقية المحكمة وفعالية نظام العدالة الجنائية الدولية، ذلك أنها تقوض الأسس التي أُنشئت من أجلها المحكمة وتُعيق قدرتها على تحقيق العدالة لضحايا أخطر الجرائم الدولية. فالمحكمة تعتمد بشكل كامل على تعاون الدول الأطراف لتنفيذ أوامر القبض الصادرة عنها.
لذلك عندما ترفض دولة ما التعاون معها في اعتقال وتسليم شخص مطلوب، فإنها تُعرقل بشكل مباشر قدرتها على أداء الولاية المنوطة بها. وهذا الوضع السلبي يتطلب بصورة عاجلة نهجًا متعدد الأوجه؛ إذ يجب على المحكمة الاستمرار في تفعيل آليات المساءلة المنصوص عليها في المادة 87(7)، من خلال الإحالة الفورية والمنتظمة لحالات عدم الامتثال إلى جمعية الدول الأطراف ومجلس الأمن الدولي، كما يجب على الدول الأطراف الأخرى مباشرة الضغط الدبلوماسي والسياسي على الدول غير المتعاونة حتى تثنيها عن موقفها، مع ضرورة العمل على تعزيز التشريعات الوطنية لتسهيل التعاون مع المحكمة، لضمان دعم جهود العدالة الدولية والمساءلة عن الجرائم الأساسية.

الأكثر قراءة
-
كيف وصلت المقاتلات الإسرائيلية إلى الدوحة.. هل هناك خيانة عربية؟
-
موعد مباراة الأهلي القادمة والقنوات الناقلة عقب التوقف الدولي
-
بعد الفحص.. 110 مقاطع ساخنة بهاتف البلوجر خالد الرسام (خاص)
-
عام كامل لاختفاء الحاجة آمنة.. والأبناء يرصدون ربع مليون جنيه للعثور عليها
-
"هتلر العصر".. علم فلسطين يحرج ترامب في مطعم بواشنطن (فيديو)
-
معاش وسكن.. تضامن المنوفية تنقذ سيدة و3 أبناء من حياة الشوارع
-
بعد تقدم مصر بشكوى ضد إثيوبيا أمام مجلس الأمن.. ماذا تعني هذه الخطوة؟
-
ماسك يتصدر.. 400 ملياردير أمريكي يضيفون 1.2 تريليون دولار لثرواتهم في عام
أكثر الكلمات انتشاراً