يا سمر.. الهوية المصرية لا تُخجل.. إنها فلاح يزرع الشمس
في كل مرة يتجرأ فيها أحدهم على الادّعاء بأن “الجلابية لا تمثل مصر”، نُدرك أن الأزمة ليست في القماش، بل في البصيرة. ليست في شكل الثوب، بل في منطق الرأس الذي فقد ذاكرته الحضارية، ونظر إلى مصر من نوافذ المولات لا من طين الحقول.
لقد قالت الكاتبة سمر فودة إن “الجلابية وهابية لا مصرية”، وإننا “كنا شيكًا قبل المدّ الوهابي”، وكأن الأناقة تُقاس بمسافة البعد عن الجذور. ولأن الردّ على الخطأ لا يكون بالصراخ، بل بالعودة إلى الأصل، فلنعد إذن إلى أصل مصر، إلى فجرها الزراعي، إلى نيلها الذي صاغ وجهها كما تصوغ الأم وجه ابنها.
من قال إن الفلاح ليس هوية؟ الفلاح هو أول مصريّ عرف معنى الزمن، حين راقب النيل يتعالى وينحسر، فاخترع التقويم قبل أن تُولد الفلسفة. الفلاح هو من جعل من الوحل حضارة، ومن الغيطان معابد، ومن الساقية قانونًا للكون.
هوية مصر ليست في الأزياء الأوروبية التي ارتداها أبناء المدن زمن الخديوي، بل في تلك الجلابية التي حملت فوق أكتافها تاريخًا من الصبر والكدح والإيمان. هذه الجلابية التي تُسفّهها “سمر فودة” ليست ثوبًا، بل راية حضارة تمتد من “إمحوتب” حتى “عبد الناصر”، ومن حبوب القمح الأولى إلى ضفائر بنت الريف التي تغنّي على عتبة المساء.
ما تراه “وهابية” هو في الحقيقة وجه مصر الشعبي، البسيط، المتدين بالفطرة، لا بالاستيراد. مصر التي لم تنتظر الجزيرة لتعرف ربها، ولا الوهابية لتعرف الحياء. مصر كانت تتصوّف في الأزهر، وتبكي عند مقامات الأولياء، قبل أن يُولد من يظن أنه جلب إليها الدين من الرمال.
المدّ الوهابي الذي تتحدث عنه لم يبدّل هوية مصر، بل حاول أن يغطيها بالتراب، فتنفّست من جديد. مصر ليست ضحية الفكر الوافد، بل صاحبة الفكر الأصيل. وهي حين انحنت قليلاً أمام رياح النفط، كانت تفعل ما يفعله الغيط أمام العاصفة: ينحني ليمرّ الهواء، ثم ينهض أقوى.
إن ما يسمّى “الشيك” ليس نقيض “الجلابية”. الجمال في مصر لم يكن يومًا حكرًا على الحرير، بل كان في نظافة الثوب واتساع القلب. الفلاح حين يغتسل من عرقه قبل صلاة المغرب، يلبس أبيضه كأنه يتهيأ للقاء الله، لا للعرض على جمهور الكاميرات.
المصريون لم يكونوا شيكًا قبل الوهابية كما تتوهم “سمر”، بل كانوا أنبل، لأنهم كانوا حقيقيين. كانوا يلبسون ما يشبههم، لا ما يُرضي الغرباء عنهم. إنهم أبناء الطين المقدس، لا أبناء “الكولونيا” المستوردة.
ثم من قال إن الهوية تُختصر في الثياب؟ الهوية المصرية أعقد من أن تختزل في كمٍّ أو ياقة. إنها مزيج من النيل والعقل، من الفرعون والفلاح، من المدح النبوي في الموالد إلى نحت المعابد في الصخر. الهوية المصرية لا تُلغي، بل تحتوي. فيها القبطي والمسلم، الصعيدي والبحيري، البدوي والعالم. ولو سألنا التاريخ من أنتم؟ لقال: “نحن قومٌ يزرعون حتى لو غابت السماء”.
الذين يزدرون “الجلابية” اليوم يكررون خطأ النخب التي ظنت أن التحضر في التنكر، وأن الانتماء عارٌ يجب إخفاؤه بالبدلات الإيطالية. نسوا أن الأزياء تتبدل، لكن الوجدان لا يتبدل. وأن الحضارة المصرية لم تصنعها باريس ولا لندن، بل صبر الفلاح على حبات القمح، ودعاؤه حين يفتح الترع للماء.
الهوية المصرية ليست تمثالًا في متحف، بل كائن حيّ، يمشي في الغيطان، ويضحك في المقاهي، ويغني في الحقول. وهي ليست بحاجة إلى “إعادة تلميع” لتلفّ العالم، لأنها كانت تلفّ العالم قبل أن توجد هذه العبارات الاستعراضية.
ما يُخيف بعض المثقفين المزيفين أن يروا مصر على حقيقتها: بلدًا من الطين النبيل لا من المرايا المستوردة. إنهم يريدون مصر من ورق مجلات الموضة، ونحن نريدها من لحم الناس وروح الأرض.
ولأننا نحترم الكلمة ونوقر الرأي، نقول لسمر فودة: ربما قصدتِ الدفاع عن “صورة مصر الحديثة”، لكنك وقعتِ في خطيئة أخطر، حين استبدلتِ الجوهر بالشكل، والأصالة بالبريق. مصر ليست بحاجة إلى “تجميل”، بل إلى من يفهم جمالها الطبيعي، ذلك الجمال الذي يُزرع في الوادي ويُسقى بالعرق والدمع والحب.
إن الهوية المصرية ليست مرآة تلمع للعالم، بل جذع شجرة ضاربة في الأرض، تمتد جذورها إلى آلاف السنين. وإذا كان البعض يرى في “الجلابية” رمزًا للتخلف، فنحن نراها صفحة من كتاب التاريخ، مكتوبًا عليها بخط الفجر: “هنا مصر.. وهنا الفلاح الذي علّم الدنيا معنى البقاء.”
الأكثر قراءة
-
"الحاج الضوي" لـ سمر فودة: الجلابية رمز الصعيد والهوية المصرية
-
شقيق إسماعيل الليثي يكشف لـ"تليجراف مصر" تطورات حالته بعد حادث المنيا المروع
-
دخلا البلاد منذ 3 أيام، تفاصيل تحرش خليجيين بفتاة في نايل سيتي
-
بعد القبض على المتهمين، الفتاة المعتدي عليها من خليجي تشيد بالشرطة: "قادرة تحمي بناتها"
-
موقف إجازة المدارس في انتخابات مجلس النواب 2025 ومواعيد التصويت
-
عاطف عجلان.. الحصان الأسود في سباق برلمان مصر 2025
-
ساعتان تحبسان الأنفاس، 10 أشخاص "بين السماء والأرض" داخل أسانسير مستشفى بالشرقية
-
"قلبه وقف ورجع تاني"، تفاصيل الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثي
أكثر الكلمات انتشاراً