السبت، 15 نوفمبر 2025

08:24 م

من تاجر قطع غيار إلى عالم نووي، كيف صنعت الشائعة جريمة الإسكندرية؟

سلاح ناري

سلاح ناري

لم تهتز الإسكندرية بصوت الطلقات فقط، بل اهتزت حين بدأت الشائعات تتسرب كفيروس إلكتروني يلتهم الحقائق.

المهندس عبد الله أحمد الحمصاني، خريج قسم البتروكيماويات بجامعة فاروس، ومقيد بشعبة الكيمياء النووية في نقابة المهندسين، لم يكن عالم طاقة نووية، ولم يشارك في أي أبحاث حساسة، كل ما في الأمر أنه كان يعمل في تجارة قطع غيار السيارات المستعملة، بعيدًا عن أي برامج سرية أو ملفات دولية.

جريمة جنائية بحتة

الجريمة الحقيقية واضحة وبسيطة: خلافات شخصية بين صديقين قديمين وصلت إلى التشهير بزوجة المجني عليه عبر وسائل التواصل، ثم تقديم شكوى للوالد، ثم غضب الأب، واشتعال رغبة الانتقام. 

سافر الجاني إلى الصعيد، اشترى طبنجة، أخفاها، ثم ترصّد للمجني عليه وأطلق عليه الرصاص في الموقف الجديد ولاذ بالفرار. 

في غضون ساعات، تمكنت الشرطة من القبض عليه وضبط السلاح بحوزته، كل شيء كان واضحًا: جريمة جنائية بحتة، دوافعها شخصية، والقاتل معروف.

تدخل الجهات الدولية

لكن بينما ترفع النيابة فوارغ الطلقات وتحقق مع الجاني، انطلقت صفحات التواصل الاجتماعي ووكالات خارجية لتعيد كتابة الواقع من البداية. 

فجأة أصبح المهندس البسيط عالم طاقة نووية مطارد دوليًا، وارتبط اسمه بـ”أبحاث حساسة” و”مافيا دولية”، وأخذت الشائعة تنتشر بسرعة الضوء. 

عناوين مثل: “اغتيال مهندس نووي مصري”، “تصفية عالم بسبب أبحاث سرية”، “جهات دولية تتدخل” أصبحت المادة الأكثر تداولًا، رغم أنها لا تمت للواقع بصلة.

هنا تظهر آلية صناعة الشائعة، كما تشرح الدكتورة إيناس عبد العزيز، حيث أشارت إلى أن الشائعة السياسية تعمل مثل فيروس، تبدأ بحادث صغير، تُضاف له كلمات مثيرة، وتنتشر بين صفحات محلية، ثم تلتقطها وكالات خارجية لتعيد تصديره كرواية حقيقية، في هذه العملية، لا حاجة للحقائق، ولا للأدلة، يكفي أن الجمهور غاضب أو متلهف للإثارة.

اللواء أشرف عبد العزيز والدكتورة إيناس عبد العزيز

وأضافت إيناس عبدالعزيز : “الخطر ليس في الجريمة، بل في تحويل أي شاب يحمل كارنيه نقابة إلى عالم مطلوب دوليًا، لمجرد كلمة مكتوبة على الورق،. الشائعة الآن ليست خبرًا، إنها مشروع سياسي كامل”.

ووصف اللواء أشرف عبد العزيز، خبير مكافحة الإرهاب، الوضع بسخرية مريرة، قائلا: “رصاصة واحدة قتلت عبد الله… لكن آلاف المشاركات والشائعات حاولت قتل الحقيقة كلها، فالقاتل شخص واحد، لكن صانع الشائعة مجموعة كاملة، القاتل استخدم طبنجة، أما هم فاستخدموا كلمة، والكلمة أخطر”.

وأضاف عبدالعزيز ما يحدث في مثل هذه الحوادث يكشف ثلاث حقائق صادمة:

1. الشائعة أسرع انتشارًا من الحقيقة، وهي قادرة على قلب أي حادث عادي إلى أزمة وطنية.
2. الوعي الجماهيري يصبح سهل الانخداع حين يجتمع حب الإثارة مع جهل التفاصيل، فتنتشر الروايات المبالغ فيها بشكل فوري.
3. الاستغلال الخارجي متعمد: وكالات معادية ومواقع خارجية تبحث دائمًا عن أي حادث داخلي لتصويره كأزمة دولية، ونقل صورة مصر في موقف ضعف أو فوضى.

وتابع: "في حادثة الإسكندرية، المهندس قتل بسبب خلاف شخصي، السلاح كان طبنجة، والدافع كان انتقامًا، والقاتل معروف، أما الشائعة، فقد صنعت عالمًا نوويًا من الهواء، وحوّلت الواقعة إلى مؤامرة دولية في دقائق معدودة.

واستكمل الخبير الأمني أن الدرس الكبير هنا ليس في الجريمة نفسها، بل في كيفية صناعة الشائعة واستغلالها: وتبدأ محليًا بصفحة مجهولة، تضيف كلمات مثيرة، يشاركها الجمهور، تلتقطها وكالات خارجية، ثم يعود الخبر إلى الداخل مصدّقًا، وهكذا تصبح الشائعة "ترند"، وأخطر من الرصاصة نفسها، والنتيجة المؤلمة أن الواقعة تعطي مثالًا حيًا على أن أخطر ما يواجه المجتمع اليوم ليس السلاح، بل الكلمة الكاذبة، وأن أي حادث صغير يمكن أن يتحول إلى أزمة وطنية إذا استغله من يهوى الإثارة ويستثمر الجهل، من صفحات التواصل إلى وكالات معادية بالخارج.

واختتم: “في النهاية، الجريمة قتلت مهندسًا… لكن الشائعة حاولت قتل العقل الجمعي للمجتمع، وبهذا تصبح الشائعة هي القاتل الثاني، الذي لا يحتاج إلى رصاص، بل إلى مشاركة واحدة لتنتشر، وتكبر، وتصبح أخطر من أي طبنجة”.

اقرأ أيضًا:

"مهندسين" الإسكندرية تنعي الحمصاني بعد مقتله بالإسكندرية: مقيد بشعبة الكيمياء والنووية

"يبيع سيارات"، كشف لغز مقتل مهندس بالرصاص بجوار الموقف الجديد بالإسكندرية

السيارة قادت إليه، القبض على المتهم بقتل مهندس كيمياء نووية في الإسكندرية

search