أنا الدين.. والدين أنا!
بين حين وآخر تطرق أذنيه كلمة "إخوان"، يرفعهم البعض إلى عنان السماء، ويخسف بهم آخرون الأرضين السبع، وبين مدح مفرط وذم بلا حدود تغيب عنه الحقيقة وتزداد حيرته. يقرر أن يقرأ بنفسه عن الإخوان؛ ليتعرف أفكار الجماعة المثيرة للجدل، وليس أفضل من كتابات مؤسسها حسن البنا في هذا الميدان. يجلس إلى مكتبه ويبدأ في تصفح كتاب بعنوان "مجموعة رسائل حسن البنا"؛ الذي جمع فيه الإخوان عددا لا بأس به من كتابات مرشدهم الأول بعدما نشرت متفرقة على مدى سنوات.
في السطور الأولى من رسالة "دعوتنا" يقرأ كلمات عاطفية يعرب فيها البنا عن مدى إشفاقه على أحوال الأمة، ويعلن براءة جماعته من كل مطمع مادي، ثم يقول: "وكل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحدا من أربعة"؛ يسمّي الصنف الأول "مؤمنا" اطمأنت نفسه إلى صدق الإخوان وأعجب بمبادئهم. ويتوقف قليلا عند تعقيب البنا على هذا الصنف: "وكذلك كان السابقون الأولون ممن شرح الله صدورهم لهدايته فاتبعوا أنبياءه وآمنوا برسالاته وجاهدوا فيه حق جهاده، ولهؤلاء من الله أجزل الأجر". ويتساءل مندهشا: لماذا يسوّي البنا بين المؤمن بجماعته والمؤمنين برسالات الأنبياء؟ هل يرى نفسه نبيا؟!
ويستمر في قراءة كلمات البنا عن الصنف الثاني؛ المتردد الذي يتوقف في منطقة وسطى بين قبول الإخوان ورفضهم، ويلحظ المنطق ذاته في تعقيب البنا: "وكذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل".
وعن الصنف الثالث؛ النفعي الذي لا يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة؛ يقول البنا: "حنانيك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت، والجنة إن علم فيك خيرا"، فيزداد القارئ تعجبا؛ ما بال البنا يتحدث وكأنه يملك مفاتيح الجنة وصكوك الغفران؟!
وعند حديثه عن الصنف الرابع، الرافض للإخوان، يسميه البنا "المتحامل"؛ فيمعن القارئ نظره ويفكر: لماذا لا يفترض البنا أن ذلك الرافض صاحب رأي معتبر وإن خالفه؟ لماذا يعقّب قائلا: "ولقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)"؟ لماذا يرى الأمر كله صراعا بين حق يمتلكه هو وباطل يقف في صفه كل مناوئ له؟
يظل يسأل حتى يجد بعد عدة صفحات مفتاحا لجواب في كلمات البنا: "فإن شاء القارئ أن يفهم دعوة الإخوان بشيء أوسع من كلمة الإسلامية؛ فليمسك مصحفه وليجرّد نفسه من الهوى والغاية ثم يتفهم ما عليه القرآن فسيرى في ذلك دعوة الإخوان". إن البنا يرى تطابقا بينه وبين الإسلام ذاته، لا يقدّم أفكارا شخصية أو آراء ذاتية، بل يقدّم الدين متجسدا فيه وفي جماعته.
يستمر القارئ في تصفح رسائل البنا، بحثا عن شيء يؤيد ملاحظته الأولى أو ينفيها، حتى يصل إلى رسالة "إلى الشباب" ويقرأ في سطورها الأولى قول البنا: "ومن هنا كان من واجبي أن أشرح لكم في وضوح موجز دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر"، ويطالع العنوان العريض الذي يليه: "دعوة الإخوان المسلمين أو دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر"؛ فيتأكد أن ما قرأه في الرسالة السابقة لم يكن محض كلام بلاغي يعتمد المبالغة لإيصال المعنى. ويزداد يقينا عندما يقرأ المزيد في رسالة "إلى الشباب" ويجد البنا بعد عرضه أهداف الإخوان؛ يقول: "وإنما نعلن في وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لا حظَّ له في الإسلام، فليبحث له عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها".
وفي رحلته الطويلة مع رسائل حسن البنا يقرأ المعنى ذاته في أكثر من موضع؛ في رسالته "الإخوان المسلمون تحت راية القرآن" يقول مؤسس الجماعة: "نحن أيها الناس، ولا فخر، أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحملة رايته من بعده… أيها الإخوان المسلمون: هذه منزلتكم، فلا تصغروا في عين أنفسكم، فتقيسوا أنفسكم بغيركم". وفي رسالته "مؤتمر رؤساء المناطق والشُّعَب ومناطق الجهاد" يقول البنا: "نحن الإسلام أيها الناس، فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه، فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون".
لقد ظن بادئ الأمر أنه أمام رجل يعرض أفكاره ليقبل الناس منها ويرفضوا، هيّأ نفسه لدراسة ترصد أطروحات الجماعة وتحللها ليأخذ منها ويدع، ولكنه اكتشف أنه إزاء رجل متوحد مع الدين لا يرى تمييزا بين عقله البشري الذي يخطئ ويصيب، وبين معطيات دين إلهي المصدر، رجل يضع قارئه بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن يقبل بكل أقواله بوصفها الدين ذاته، أو يرفضها فيحكم عليه بمخالفة الدين، فانتهى إلى رفض تلك المساومة غير المنطقية، لم يعد بحاجة إلى بحث التفاصيل؛ فالعنوان وحده كافٍ.
الأكثر قراءة
-
القنوات الناقلة لكأس العرب 2025، كيف تشاهد البطولة كاملة مجانًا
-
موعد إعلان نتائج سكن لكل المصريين 7، الصندوق يكشف كيفية الاستعلام
-
بعد انتهاء الحصر، كيفية معرفة تصنيف مناطق الإيجار القديم للمالك والمسـتأجر
-
فضلات في المنتجات، فضيحة كبرى تلاحق شركة مياه عالمية
-
سعر الكتكوت الأبيض اليوم الأحد 30 نوفمبر 2025 في مصر
-
أنا الدين.. والدين أنا!
-
راحت ضحية الحلق، الأمن يكشف كواليس صادمة في واقعة إنهاء حياة الطفلة أسماء بسوهاج
-
رابط استعلام تكافل وكرامة بالرقم القومي 2025 للمستفيدين الجدد
مقالات ذات صلة
الإخوان والمتحف الكبير.. أبعاد سياسية وجذور فكرية
06 نوفمبر 2025 08:23 ص
البطل الحالم في أدب الإسلامويين.. رواية الظل الأسود نموذجا
26 أكتوبر 2025 09:55 ص
أكثر الكلمات انتشاراً