الأربعاء، 24 ديسمبر 2025

03:05 م

الدفاع عن محمد صبحي دفاع عن فن مصر وريادته

تختلط المعايير، وتضطرب البوصلة الثقافية، ولم تعد الإهانة حدثًا عابرًا، بل صارت مؤشرًا على خلل أعمق في الوعي العام. من هنا، لا يمكن النظر إلى ما صدر عن ياسمين عز وعمرو أديب تجاه الفنان الكبير محمد صبحي باعتباره زلة لسان أو اختلافًا في الرأي، وإنما بوصفه فعل اختزال فجّ لتاريخ ثقافي طويل، ومحاولة لإعادة ترتيب القيم وفق منطق اللحظة لا ميزان الذاكرة. فحين يُهاجَم رمز بحجم محمد صبحي بهذه الخفة، فإن السؤال لا يعود: ماذا قيل؟ بل: لماذا قيل؟ ولصالح أي تصور عن الفن والهوية؟

محمد صبحي ليس مجرد فنان، بل حالة حضارية تشكّلت عبر عقود من الاشتباك الواعي مع المجتمع. هو نموذج للفن الذي يرى في نفسه مسؤولية، لا سلعة، ورسالة، لا عرضًا. مسرحه لم يكن يومًا استهلاكًا للضحك، بل إعادة إنتاج للوعي، ومحاولة دائمة لرفع سقف الأسئلة في مجتمع يميل إلى تسطيح الإجابات. ومن هذا المنطلق، فإن النيل منه لا يمس شخصه بقدر ما يمس فكرة الفن بوصفه قوة بناء، لا أداة تزيين.

الخطورة في الهجوم الأخير أنه لم ينطلق من نقد فني أو قراءة موضوعية، بل من رغبة في الإرضاء، وكأن التاريخ يمكن شطبه أو إعادة صياغته وفق اعتبارات خارجية، أو حسابات مرتبطة بالسعودية أو بغيرها. وهنا تقع الكارثة: أن يُختزل تاريخ فنان بحجم محمد صبحي في موقف عابر، أو يُقدَّم وكأنه عبء يجب التخلص منه لأنه لم يبدّل قناعاته مع تغير اتجاه الريح. الثقافة، بطبيعتها، لا تعيش بالمرونة الانتهازية، بل بالثبات الواعي.

وليس هذا المشهد منفصلًا عما جرى مؤخرًا في أزمة فيلم “الست”، الذي قُدِّم بصورة مسيئة لكوكب الشرق أم كلثوم وتاريخها. تلك الأزمة كشفت عن سوء فهم عميق لمعنى الرمز، وكيفية التعامل مع الذاكرة الثقافية. فالهجوم على أم كلثوم، ثم الانتقال بسلاسة للهجوم على محمد صبحي، ليس صدفة، بل تعبير عن مناخ يرى في الرموز عبئًا يجب تفكيكه، لا رصيدًا يجب حمايته.

وقد جرى توظيف أغنية أم كلثوم الشهيرة في فيلم “سلامة” توظيفًا مغلوطًا، خارج سياقها الدرامي، وكأنها إساءة مقصودة، بينما الحقيقة أبسط من ذلك بكثير. الأغنية جاءت في إطار دور تؤديه أم كلثوم كراعية غنم، تخاطب الحيوان لا الإنسان، ولا تحمل أي دلالة عدائية أو إهانة لأي شعب عربي، لا السعودي ولا غيره. تحويل هذا المشهد الفني إلى مادة للاتهام يعكس ذهنية تبحث عن الصدام، لا عن الفهم، وتستثمر سوء التأويل لصناعة أزمة.

هذا المناخ نفسه يفسر الهجوم على محمد صبحي. فالرجل لم يهاجم السعودية، ولم يسيء إلى شعب عربي، ولم يتجاوز في حق أحد. كل ما فعله أنه دافع عن استقلال الفن المصري، وعن حقه في أن يحتفظ بملامحه وخصوصيته دون وصاية أو ابتزاز معنوي. لكن يبدو أن الدفاع عن الريادة بات يزعج البعض، لأن الأصوات المستقلة تظل مزعجة لكل من اعتاد السير مع التيار.

إن الحملة الموجهة ضد محمد صبحي، في ظاهرها شخصية، لكنها في عمقها تمس مصر ذاتها: فنها، وذاكرتها، ودورها التاريخي في تشكيل الوعي العربي. لذلك يصبح الصمت على هذه الإهانة مشاركة غير مباشرة فيها. ومن هنا، تبرز ضرورة تدخل نقابة الفنانين المصريين، ليس دفاعًا عن فرد، بل حماية لفكرة، وإعلانًا واضحًا بأن القامات لا تُهان، وأن الاختلاف لا يبرر الإسفاف.

ما يثير القلق في خطاب بعض الإعلاميين أنه يتعامل مع الثقافة بمنطق الاستعراض، لا التحليل، ومع التاريخ بوصفه عبئًا لا رصيدًا. هذا المنطق، إذا ساد، يحول الإعلام من أداة وعي إلى معول هدم، ويجعل من الإهانة لغة، ومن الضجيج معيارًا. وحين تفقد الأمة احترامها لرموزها، تبدأ في تفكيك ذاتها بيدها.

محمد صبحي قيمة وقامة، ليس لأنه بلا أخطاء، بل لأنه صاحب مشروع، وصوت مستقل، وتجربة متماسكة. لا يجوز، أخلاقيًا ولا وطنيًا، أن يُختزل تاريخه في حملة، أو يُقدَّم وكأنه عقبة في طريق الترضيات. الدفاع عنه هو دفاع عن فكرة أن الفن ليس تابعًا، وأن الذاكرة ليست سلعة.

في النهاية، ستبقى القيم أطول عمرًا من الحملات، وستظل القامات قائمة، مهما تعالت الأصوات العابرة. أما الإهانة، فمصيرها الزوال، لأنها بلا جذور. ومصر، التي أنجبت محمد صبحي وأم كلثوم، قادرة على حماية معناها، مهما اشتد الضجيج.

search