
الاختبارات الانتقامية جريمة تربوية.. لا هيبة في إذلال الطلاب
الامتحان الجامعي ليس ساحة لإثبات الهيبة، ولا ميدانًا للتفوق في التعقيد، ولا وسيلة لإرباك الطالب وقياس تحمله النفسي بدلاً من قياس معرفته، إنما الامتحان، في جوهره ومقاصده، أداة لقياس ما تحصّل عليه الطالب من معارف ومهارات خلال رحلة التعلم، ومقياس عادل لمستوى الفهم والاستيعاب، لا مرآة لمدى قدرة الأستاذ على إخفاء المعلومة والتفنن في تعقيد السؤال.
مؤسف أن تتحول بعض الامتحانات إلى اختبارات عقابية، لا علاقة لها بجوهر المادة العلمية، بل تنطوي على غموض متعمد، وصعوبة غير مبررة، وخروج فاضح عن نطاق المنهج الدراسي، ومؤلم أكثر أن تُقدم هذه الممارسات وكأنها دليل على "قيمة" المقرر أو "رفعة" مستواه، في حين أنها، في حقيقتها، مؤشر على خلل تربوي واضح، وغياب للوعي الأكاديمي الرصين، بل وربما ضعف في قدرة بعض أعضاء هيئة التدريس على صياغة اختبار يعكس المعرفة الحقيقية لا التحدي الفارغ.
ما حدث في كلية الطب بجامعة المنوفية، وراح ضحيته حلم طالبة في عمر الزهر، ليس مجرد حادث عارض، بل ناقوس خطر يدق بعنف في وجدان كل غيور على التعليم العالي، الطالبة "إيمان مصطفى دياب" لم تمت لأنها كانت مهملة أو كسولة، بل ماتت بعدما خرجت من امتحان ثقيل، لا يُقاس فيه العلم بالعدل، بل يُختبر فيه الصبر على الضغط، والتحمل في مواجهة الأسئلة المحملة بأكثر مما يجب، حالة من الضغط النفسي الحاد قادتها إلى أزمة صحية انتهت بنزيف في المخ، وغيبوبة، ثم رحيل.
نحن هنا لا نكيل الاتهامات جزافًا، ولا نزايد على أحد، بل نُسلط الضوء على واقع يجب أن يُصحّح، فليس من حق أي أستاذ، تحت أي ذريعة، أن يُربك الطلاب، أو يُصعّب عليهم الطريق، أو يُلقي بأسئلة تتجاوز حدود المقرر، ثم يعتبر ذلك دلالة على التفرد أو التميز، فالعلم الحقيقي لا يحتاج إلى متاريس من الغموض، ولا إلى دهاليز معقدة في السؤال، بل يحتاج إلى وضوح، واتزان، وعدالة في التقييم، وما الامتحان إلا محطة من محطات التعليم، فإن خرج عن مساره، صار أداة تهدّ من عزيمة الطالب، وتضعف صلته بالعلم.
ولا بد من التذكير بأن هناك علمًا قائمًا بذاته اسمه "نظم الامتحانات والتقويم"، له أسسه وضوابطه ومناهجه، وهو ليس ترفًا أكاديميًا بل ضرورة ملحة في كل مؤسسة تعليمية، وعلى كل عضو هيئة تدريس أن يتلقى تدريبًا علميًا حقيقيًا في هذا المجال، ليعرف كيف يضع امتحانًا عادلًا، لا يخالف المعايير، ولا يُثقل كاهل الطالب، ولا يُحيله إلى رهينة بين الخوف والارتباك، ومن المؤسف أن هناك من لم يتلقّوا هذا التدريب، بل يعتبرون الامتحان ملكًا شخصيًا لا سلطة لأحد عليه، رغم أن القانون الجامعي نفسه ينص على لجان ثلاثية للتقويم والتصحيح.
إن استمرار بعض الممارسات التي لا تستند إلى منهج علمي ولا إلى رؤية تربوية، يشكل خطرًا حقيقيًا على سمعة التعليم الجامعي وعلى جودته، والحديث عن "هيبة الأستاذ" لا يُبرر أبدًا تحميل الطالب ما لا يحتمل، ولا يُعطي أي طرف الحق في اختبارات خارجة عن الإطار العلمي السليم، وإن كنا نتحدث عن جودة التعليم، فهذه تبدأ من الاحترام المتبادل بين الطالب وأستاذه، ومن امتحان منضبط يقيس قدرات حقيقية، لا مجرد القدرة على الصبر أمام ورقة ملغّمة بالإرباك.
بل إن أخطر ما نواجهه الآن هو ما يمكن تسميته بـ"الاختبارات الانتقامية"، وهي تلك التي تُعد بروح مشحونة، تنطوي على غرض غير علمي، وتُوظف للنيل من الطلاب بدلاً من تقييمهم، وهذه النوعية من الامتحانات، يجب أن يُعاد النظر في أصحابها، لا من باب العقوبة فقط، بل من باب حماية المنظومة الأكاديمية من تصرفات لا تمثل رسالة الأستاذ الجامعي في شيء، وإذا ثبت أن هناك نية للإيذاء النفسي أو الترهيب غير المبرر، فإن من حق الجامعة – بل من واجبها– أن تتخذ كل ما يلزم من إجراءات تأديبية صارمة.
ولا مجال بعد اليوم للصمت أو التبرير، لقد مررنا جميعًا بتجارب مشابهة ونحن طلاب، وشعرنا بذات الحيرة والخذلان، لكننا تواطأنا بالصمت، واليوم، يدفع طلابنا الثمن، بصحتهم النفسية، وأحلامهم، وربما بأرواحهم، فلتكن واقعة الطالبة "إيمان" هي اللحظة التي نكسر فيها هذا الصمت، ونُعيد فيها الاعتبار لمهمة الأستاذ الجامعي الحقيقية: أن يكون هاديًا لا هادمًا، وأن يكون راعيًا لا جانيًا.
ولن يكون هذا دعوة إلى التهاون، ولا إلى إضعاف المستوى، بل هو دعوة إلى إعادة الانضباط للمؤسسات التعليمية، بحيث تُبنى العلاقة بين الأستاذ وطلابه على الاحترام والعدالة، لا على الهيبة الفارغة، نريد تعليمًا قويًا، نعم، ولكن إنسانيًا، نريد امتحانات صادقة، لا خادعة. نريد تقويمًا حقيقيا، لا عقابا مقنعا، فمن لا يحسن وضع امتحان، عليه أن يتعلم، ومن لا يريد أن يتعلم، فليفسح الطريق لغيره.
أكرر أننى لا أطالب بتسهيل الامتحانات ولا بتفريغ المحتوى الأكاديمي من جودته، بل أطالب بأن يكون الامتحان أداة للتقويم، لا أداة للتنكيل، نريد امتحانًا يعكس ما تم تدريسه، ما تم شرحه، ما فُهم لا ما أُخفي، ما طُبّق لا ما فُرض بالقوة، نريد تعليمًا لا يخيف الطالب من قاعة الامتحان، بل يثق في عدالة من يقوّمه.
لقد حان الوقت لإعادة الاعتبار لروح التعليم، ولرسالة الأستاذ الجامعي، ولحق الطالب في أن يتعلّم لا أن يُرهق، وإن لم نتدارك الأمر، فإن فقدان الثقة بين الطالب وأستاذه سيكون هو القبر الحقيقي لكل مشروع أكاديمي.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
دكتوراه بعد الرحيل.. دموع القاعات على الحلم الغائب!
19 أبريل 2025 05:54 م
ماكرون في جامعة القاهرة.. شكرًا فخامة الرئيس
09 أبريل 2025 06:30 م
تجارة الأبحاث العلمية.. جريمة بغطاء قانوني
03 أبريل 2025 08:47 ص
سرقة الأبحاث العلمية.. عندما يتحول الأكاديمي إلى لص!
26 مارس 2025 02:57 م
أكثر الكلمات انتشاراً