
زيف التحليل وعشوائية التقدير.. مخاطر الانزلاق في مستنقع الادعاء الأكاديمي
في ظل تشابك القضايا الإقليمية والدولية، وتعقيد الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لم يعد مقبولًا أن تترك الساحة الإعلامية مفتوحة أمام تقديرات غير دقيقة وتحليلات ارتجالية، يروّج لها تحت مسميات "متخصصين" أو "خبراء"، دون أن تستند إلى أي أساس علمي أو منهجي.
إن ما يطرح أحيانًا في الإعلام من قراءات سطحية أو استنتاجات عامة، لا يرتكز على بيانات موثقة أو دراسات مسبقة، بل يبنى على الانطباعات الشخصية والانحيازات الفردية، وقد بات هذا الأمر يشكل خطرًا مباشرًا على وعي المجتمع واستقرار القرار.
التحليل الرصين لا يقوم على الظن، بل على العلم، لا يكفي أن يمتلك الفرد القدرة على الكلام أو الحضور الإعلامي حتى يُمنح شرعية في تفسير الوقائع أو استشراف الأحداث، التحليل الأكاديمي الجاد هو عملية دقيقة، تمر بمراحل من الدراسة المقارنة، وجمع البيانات، وتوظيف النماذج الكمية والكيفية، ومراجعة الأدبيات السابقة، ثم اختبار الفرضيات بوسائل علمية، ومن دون هذه الخطوات، يصبح كل ما يقال في الفضاء الإعلامي مجرد تكرار للصخب، لا يُنتج معرفة ولا يسهم في صناعة الوعي، بل يكرّس حالة من الضبابية والتشويش.
ما يحدث في بعض المنصات من تقديم تقديرات لا ترقى إلى مستوى التحليل العلمي هو استهتار بالعلم قبل أن يكون تضليلًا للجمهور، ويتمادى البعض في هذه الممارسات حين يستخدم مصطلحات فضفاضة أو يركب الموجة السياسية الآنية، دون امتلاك أدوات التحليل أو الحد الأدنى من الاطلاع الأكاديمي، وتكمن الخطورة حين يتسلل هذا النوع من الخطاب إلى المؤسسات الإعلامية الكبرى أو إلى دوائر التأثير في الرأي العام، فيكتسب شكلاً من أشكال الشرعية الزائفة، وهنا تتحول المعلومة الخاطئة من مجرد خطأ فردي إلى ظاهرة لها كلفة اجتماعية واقتصادية باهظة.
بعض من يسمون أنفسهم "محللين" يكتفون بمجرد كتابة منشور على وسائل التواصل الاجتماعي ثم يستضافون في برامج فضائية كمراجع تحليلية، بينما هم في الحقيقة لا يحملون أي سند علمي، هذه الظاهرة تتسبب في تآكل الثقة في المتخصص الحقيقي، وتسمح بخلق فجوة بين المعرفة الأكاديمية والإعلام الجماهيري، الأدهى أن بعض المراكز التي تُطلق على نفسها "مراكز دراسات" لا تقوم سوى بتكرار عناوين الصحف أو ملء تقاريرها برؤى شخصية لا تستند إلى بيانات، ولا تشتبك مع أي إطار نظري أو أدوات قياس معروفة.
الدولة معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بأن تُدقق في هوية من يُقدم نفسه كصاحب تحليل أو رؤية متخصصة، فالعشوائية في الطرح لا تُنتج فقط خطابا مشوشا، بل تؤثر على مسارات القرار، وتدفع في اتجاهات خاطئة، وتُهدر الموارد وتكلفنا سياسيًا واقتصاديًا، وحين تبنى بعض السياسات أو التوجهات العامة على آراء سطحية متداولة إعلاميًا دون تمحيص علمي، فإن النتيجة تكون كارثية على مستوى التطبيق والتأثير.
إن التحليل الأكاديمي الحقيقي لا ينفصل عن الدراسات السابقة، بل يتكامل معها ويستند إليها، ولا يمكن لأي رؤية تحليلية أن تكون معتبرة ما لم تدعم بأدلة رقمية، وقراءات إحصائية، ونماذج قياسية، ومصادر موثوقة، فالعلم لا يحتمل المجازفة، ولا يقبل التقديرات الحدسية التي لا يمكن اختبارها أو تكرارها، ومن هنا، يجب أن يعاد النظر في الطريقة التي يتم بها تقديم "التحليل" في الإعلام، ويُشترط أن يقدم من أصحاب خلفيات علمية موثقة، ويراعى فيه الالتزام بمنهج البحث الأكاديمي، سواء في الاستقراء أو الاستنتاج أو التوصيات.
لقد آن الأوان أن تغلق بعض الكيانات التي تروج للزيف تحت غطاء البحث، والتي لا تمارس إلا تضليلًا منظمًا، وتلبس الجهل ثوب التخصص، وعلى الدولة أن تتدخل لحماية الحقل المعرفي من هذا العبث، لأن الخسارة المعرفية لا تعوض بسهولة، ونتائجها تمتد لأجيال، إننا في لحظة فارقة تتطلب فرز الأصوات، والتفريق بين من ينقلون الوعي، ومن يتاجرون به، وبين من يكتبون لإضاءة الطريق، ومن يكتبون لإرضاء اللحظة.
إن سلاحنا في مواجهة هذا الانحدار هو الإيمان بالعلم والمنهج، والتمسك بالتحليل الرصين، والاعتماد على الدراسات ذات المصداقية، والاحتكام للأرقام لا للانطباعات. فمن أراد أن يُحلّل، فعليه أن يبحث أولًا، ومن أراد أن يُقوّم، فليُقدّم الدليل. أما التقدير العشوائي، فلا يجب أن يُترك ليعبث بعقول الناس أو يفسد صناعة القرار.
تتجلى خطورة التحليلات الخاطئة والعشوائية على الاقتصاد والأمن في أنها تربك أولويات الدول، وتوجه الموارد نحو مسارات غير مدروسة، مما يؤدي إلى هدر اقتصادي فادح وخسائر يصعب تداركها، فعندما تبنى السياسات الاقتصادية على تقديرات غير دقيقة أو توصيات إعلامية مضللة، تتأثر خطط الاستثمار، وتتراجع ثقة الأسواق، وقد تتخذ قرارات تؤدي إلى تفاقم العجز أو تعطيل التنمية.
وعلى المستوى الأمني، فإن أي قراءة مغلوطة للمشهد الإقليمي أو تهوين أو تهويل للتهديدات دون أساس علمي، قد تدفع باتجاه قرارات أمنية خاطئة، تُعرّض البلاد لمخاطر داخلية وخارجية، وتضعف من قدرتها على المواجهة الاستراتيجية، إن المزج بين الجهل والتحليل الظاهري في الإعلام لا يهدد فقط جودة السياسات، بل يفتح ثغرات في جدار الحماية الوطنية.
وللحديث بقية..

الأكثر قراءة
-
نتيجة الصف الأول الثانوي بالرقم القومي الترم الثاني بالمحافظات.. رابط مباشر
-
هجوم صاروخي خامس من إيران على إسرائيل
-
ملك زاهر تكشف سبب تعرضها لأزمة صحية
-
نتيجة الصف الخامس الابتدائي محافظة القليوبية.. رابط مباشر
-
زلزال يضرب السعودية والخليج العربي
-
نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة المنوفية بالاسم الترم الثاني 2025
-
نماذج للتدريب.. امتحانات دين للصف الثالث الثانوي وإجاباتها
-
في امتحاد الدين.. السور المقررة للصف الثالث الثانوي 2025

مقالات ذات صلة
مشكلة الخرائط في الأبحاث العلمية: بين التحري الدقيق والخطر القومي
08 يونيو 2025 10:43 ص
الدبلوماسية العلمية.. جسر مصالح الدول وتهدئة الصراعات
31 مايو 2025 10:08 ص
مؤتمر الاستثمار في إفريقيا.. حينما تصدح القارة بصوت إرادتها
26 مايو 2025 03:13 م
"الجغرافي الدولي".. حدث أكاديمي ضخم وقف في الظل!
22 مايو 2025 12:44 م
أكثر الكلمات انتشاراً