الأربعاء، 14 مايو 2025

04:25 م

الـدفعة 1977 في القاهرة.. عدالة المنصة ومقعد المدرج

في مشهد نادر تتوقف عنده الذاكرة، وتخشع له العقول إجلالًا، رسمت جامعة القاهرة لوحة وطنية سامقة، تجسد عظمة الإرث وتؤكد أن منبت العدالة لا يزال نقيًّا، وأن من رحم هذه المؤسسة العريقة خرج رجال تعلموا القانون، وارتقوا به، فصاروا رموزا للعدل ورايات مرفوعة للوطن. 

في احتفالية مهيبة، امتزج فيها التاريخ بالمجد، كرّمت الجامعة قامات قضائية نادرة المثال، رؤساء الهيئات القضائية الخمس، جميعهم من خريجي دفعة واحدة بكلية الحقوق – دفعة 1977 – في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ مصر، بل تكاد تكون الأولى في تاريخ القضاء العالمي. 

لم يكن هذا الحدث الاستثنائي مجرد تكريم بروتوكولي، بل هو إعلان عن حقيقة راسخة مفادها أن كلية الحقوق بجامعة القاهرة لم تكن يوما مجرد محطة للدراسة، بل كانت وما زالت محرابا لتكوين العقول، وصقل الضمائر، وتخريج الرجال الذين يعول عليهم حين يراد العدل وتطلب الهيبة، هؤلاء القضاة العظام، الذين اعتلوا أعلى منصات القضاء المصري، اجتمعوا ذات يوم على مقاعد الدرس بين جدران هذه الكلية، ينهلون من علمها، ويتشكل وعيهم بين صفحات القانون ومواقف الرجال.

وفي القلب من هذا المشهد، وقف رئيس الجامعة، الأستاذ الدكتور محمد سامي عبدالصادق، لا كـ راعٍ للحفل فحسب، بل كمعبّر عن وفاء جامعة لوعدها، واعتزاز مؤسسة علمية بقامات خرجت من رحمها، هو رجل يحسب له أنه كان قاضيًا يوما ما، وكان له في محراب العدالة مقعد، لكنه اختار الطريق الموازي، فآثر أن يبقى في رحاب العلم، أستاذا بكلية الحقوق، يعلم ولا يتعالَى، يُرشد ولا يؤنب، هادئ الطبع، جم الأدب، صبورًا يلين به الغليظ، رفيقًا لا يتجاوز الحدود، يملك من التواضع ما يقربه من القلوب، ومن الهيبة ما يعلي شأنه بين رجالات الدولة والعلم. 

اختياره تكريم هذه القامات لم يكن قرارا عاديا، بل كان موقفا نبيلا من رجل يعرف أن الوفاء للعلماء ولرجال العدالة واجب لا يسقط بالتقادم، وأن تكريم من حملوا راية القانون هو تكريم للوطن ذاته، وللقيم التي تقوم عليها الدولة. 

إنني، كأحد من تشرفوا بعضوية نادي قضاة مصر، أفخر أيما فخر بهذا المشهد، وأعتز بانتمائي لهؤلاء الرجال وبصحبتهم أبناء الصرح القضائي الشامخ، رجال قضاء مصر العادل الذي لا يزال وسيظل قلعة النزاهة، ومؤسسة الشرف، ومدرسة الوطنية والأخلاق. 

والحقيقة أن نادى قضاة مصر ليس مجرد كيان يجمع القضاة، بل هو ميثاق أخلاقي، وصوت وطني ثقافي نقي، ومن يقودونه اليوم هم من خيرة قضاة مصر، رجال يحملون المبدأ كأنه عهد، ويمضون به في صمت الحكماء، لا يطلبون رياء ولا يسعون لبهرجة، بل يقيمون العدالة حيث يميل الميزان، ويعيدون للحق كلمته حين تشوشها الأهواء. 

لقد كان هذا الحدث أكثر من احتفال، كان شهادة للتاريخ، ورسالة للأجيال، بأن جامعة القاهرة التي أنجبت القامات الفقهية القانونية في مصر، لا تزال قادرة على أن تنجب، وأن العدل الذي نراه على المنصة اليوم بدأ من مقعد في مدرجٍ جامعي، من محاضرة ألقيت بأمانة، ومن أستاذ نقي الخلق عميق الإيمان برسالته، هنا جامعة القاهرة، 

وهنا تصنع الدولة حين تتلاقى المعرفة مع الإخلاص، ويتقدم المخلصون ليكتبوا للتاريخ سطورا لا تمحى. إن هذا التكريم الذي شهدناه ليس مجرد مناسبة عابرة، بل هو تجسيد حقيقي لعراقة جامعة القاهرة وعمق تأثيرها في بناء الدولة، من تم تكريمهم هم بالفعل قامات عظيمة، لا شك في استحقاقهم لهذا التقدير والاعتراف بما قدموه لوطنهم من جهد وعطاء، فكل واحد منهم كان له دور حاسم في ترسيخ العدالة وصون الحقوق. لكن من يستحق الشكر أيضًا بكل تأكيد هو من بادر بفكرة هذا الحدث، ووضعها موضع التنفيذ بكل إخلاص وعزم. 

ولا أنكر أن التكريم أحدث ضجةً حقيقية في مجتمع القضاة، ليس فقط بفضل ما تم تكريمه، ولكن أيضًا بفضل من كان وراء هذه المبادرة الرائعة، التي تبرز بوضوح كيف يمكن للمؤسسات الأكاديمية أن تساهم في تكريم العطاء وتنمية روح الوفاء والاعتزاز بالإنجازات القانونية. أكرّر أن هذا الحدث هو درسٌ للجميع في كيفية تكريم من يستحقون، وكيفية الاعتراف بالعطاء الحقيقي، فشكرًا للأستاذ الدكتور محمد سامي عبدالصادق على ما قدمه، ولكل من أسهم في إنجاح هذا التكريم الذي سيظل علامة فارقة في تاريخ الجامعة والوطن. 

وللحديث بقية..

search