الثلاثاء، 20 مايو 2025

10:20 ص

ياسمين العيساوي

ياسمين العيساوي

A A

حالة نفسية اسمها عمرو دياب!

لن تستطيع إلا أن تقف مذهولاً وأنت تراقب الحالة التي يصنعها عمرو دياب في كل حفلة يغني فيها، ليس الأمر مجرد حضور جماهيري مصري طاغٍ من مختلف الأعمار، أو حب وتمايل مع الأغاني، بشكل يجعلك منبهر بالجمهور أكثر من أداء المغني أحيانا. إنّها ليست مجرد حفلة، بل مشهد نابض، تتمايل فيه الذكريات على إيقاع الأغاني! 

فظاهرة عمرو دياب تعدّت كونها فنية غنائية، لتصل إلى كونها حالة نفسية متكاملة بين مختلف الأجيال، إنّه رجل يُعيد تشكيل لحظات من حياة جمهوره كلما غنّى.

فحتى وإن بدت أغانيه متشابهة لحناً ومضموناً في بعض الأحيان، إلا أن ما يُحدثه في الجمهور لا يُشبه إلا المعجزات الصغيرة... وهي فعلا حالة وليست أغاني أو إبداع موسيقي فقط، فهو أكثر فنان مرتبط لدى جمهوره بحالتهم النفسية والعاطفية بالدرجة الأولى وكأن كل نغمة تُلامس جرحًا قديمًا، أو توقظ حنينًا.

فـعمرو دياب من وجهة نظر جمهوره لا يغني فقط، بل يرمم ما تكسّر أو يُطبطب على قلوب أنهكها الانتظار، بل ويعيد رسم مشاهد من الماضي يود البعض أن يُقيم فيها للأبد.

فإذا طرحت سؤالاً على أحد مستمعيه عن أكثر الأغاني التي يحبها، سيذكر لك قائمة طويلة. ودون وعي منه سيربط كل أغنية بحدث، بإجازة صيفية صاخبة، بقصّة حب، بلحظة أثّرت في مشاعره، فأغانيه مرتبطة لدى جمهوره بحالات نفسية أكثر من كونها أغاني.

وهذا في الحقيقة، ما يُحسب له كفنان. فأن ترتبط بك مشاعر جمهورك، أن تصبح أغانيك جزءًا من ذاكرتهم العاطفية، فتلك موهبة لا يملكها إلا القليل. ونسبة كبيرة من الجمهور يعيش حالة النوستالجيا مع أغاني عمرو دياب، التي تجعلهم يشعرون بالحنين لأيام ومواقف ومشاعر مضت، لذلك فالأغلب على استعداد تام ليدفع مبلغاً كبيراً لأجل حضور حفلاته، كجلسة علاجية نفسية تعيد لهم تلك المشاعر التي فُقِدت مع مرور الأيام، لأجل تواصل مع لحظات من الماضي ومشاعر توقِضها كل أغنية.

وعلم النفس كذلك يؤكد أن الموسيقى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالذاكرة العاطفية، فوفقًا لعلم الأعصاب، تستدعي الموسيقى أجزاء من الدماغ مسؤولة عن المشاعر والذكريات، مثل اللوزة الدماغية (amygdala) والحُصين (hippocampus) لذا، ليست مصادفة أن يبتسم أحدهم بلا وعي حين يسمع مقطعًا من "راجعين"، أو أن تدمع عينا آخر عند سماع "تملي معاك".

فكل أغنية هي مفتاح لبوابة من الماضي، تُفتح فجأة لتتدفق منها مشاعر دفينة، ربما لم يكن المستمع يعلم أنه لا يزال يحتفظ بها!

ولكن ما الذي جعل من عمرو دياب حالة فنية نفسية متفرّدة؟ 

مبدئياً الثبات في التغيير، فهو فنان يعرف كيف يُجدد جلده دون أن يخلع روحه، يتغير في الشكل والإيقاع، لكنه يبقى عمرو دياب الذي أحبّه جيل الثمانينات والتسعينات منذ كانوا يرتدون الزي المدرسي. ثم اعتماده على الذكاء العاطفي الفني، فهو يعرف جيداً كيف يُغني للفرح ومتى يُلامس الحنين، ومتى يواسي  قلب الموجوع، إنه يُشبهنا في لحظاتنا كلها، دون أن يدّعي شيئًا، كذلك تنوع أغانيه الذي لا ترتبط بزمن أو مكان، أنت ترقص عليها في الحفلات وتبكي عليها وأنت وحيد تقود سيارتك.

وعلم النفس لا يغفل عن أثر الموسيقى، بل يحتفي بها، فهناك ما يُعرف بـ"العلاج بالموسيقى"، وهو استخدام الألحان لتخفيف القلق، وتحفيز المشاعر، وتفريغ التوتر. وأغاني عمرو دياب  بالنسبة لكثير من جمهوره ليست فقط ترفيهًا، بل جلسات علاجية لتفريغ المشاعر بين سطور كل أغنية.

والفن الحقيقي هو ذاك الذي يلمسك حيث لا تدري، ويأخذك حيث لم تتوقع. وعمرو دياب نجح في أن يكون أكثر من فنان؛ كان مرآة لجيل، وذاكرة لعاطفة، وجسرًا بين ماضٍ يتوقون إليه وحاضر يحاولون فهمه. فحين يدفع الناس المال لحضور حفله، فهم لا يشترون تذكرة موسيقية، بل يشترون فرصة للعودة إلى أنفسهم، إلى أيامهم، إلى قلوبهم التي خفّت نبضاتها مع مرور الزمن. 

search