الجمعة، 23 مايو 2025

02:44 ص

الشيخ مظهر شاهين
A A

شيخنا الحاج محمد عمارة.. جبل النور في محراب القرآن

في إحدى قرى مصر الهادئة، وتحديدًا في قرية طُوخ مَزْيَدْ التابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية، حيث يعيش الناس ببساطة ورضا، وتجمعهم المحبة والسكينة، كان أهل القرية يزرعون أرضهم ويعتنون بأبنائهم كما يعتنون بزرعهم. قلوبهم صافية، وبيوتهم عامرة بالقرآن، وكانوا يقدّرون أهل العلم، ويجلّون من يخدم الدين، ولو جلس على حصير في مسجد صغير، أو سار بينهم في صمت وتواضع.

في تلك البيئة النقية، بزغ نجم رجل لم يكن من أهل الضجيج، لكنه كان من أهل البركة، ولم يكن صاحب شهرة، لكنه صاحب أثر. هو الشيخ الحاج محمد عمارة -رحمه الله- رجل عاش في الظل، لكن نوره بلغ كل بيت، وسيرته لا تزال تُروى بتقدير ومحبة خالصة.

اتخذ من المسجد العتيق بالقرية، مسجد سيدي فخر الدين، مقامًا دائمًا لا يفارقه إلا قليلًا. لم يكن المسجد في نظره مكان عبادة فقط، بل ميدانًا للعلم، وموضعًا للرسالة. كان يأتيه قبيل الظهر ليشرف على شؤونه، ويُحفّظ طلبة العلم كتاب الله تعالى، ويظل فيه حتى ما بعد العشاء، يتخلل ذلك ساعة واحدة يعود فيها إلى منزله، ثم يرجع وكأن بينه وبين المسجد عهدًا من المحبة لا ينقطع.

جلس على حصير المسجد، لا يطلب أجرًا، ولا ينتظر شكرًا. علّم الأطفال والشباب القرآن الكريم تلاوة وتجويدًا وأدبًا، بحب وصبر لا يعرفه إلا من عاشر الصادقين. وكان يرد على من عرض عليه مالًا بقوله: “أجري على الله، ومن خدم كتابه لا يضيع". قال تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) [سبأ: 39].

لم يكن في هيئته ما يلفت النظر من مظهر أو لباس، لكنك إن رأيته أحسست بالوقار قبل أن يتكلم. كان معتدل القامة، مريح الملامح، في مظهره بساطة، وفي جلسته راحة، وإذا تحرّك، انساب خطوه بهدوء يشبه هيبة أهل القرآن. لحيته البيضاء الخفيفة تكمل وجهًا طيب القسمات، تضيئه نظافة الروح قبل ملامح الجسد. لم يكن من أهل التكلّف في ملبسه، بل ثوب نظيف بلا زينة، يكشف عن طهارة اليد وعيشٍ لا يشوبه حرام. صوته خفيض منضبط، لا يعلو عبثًا، ولا يختلط بتوتر، بل يخرج كما يخرج الدعاء من القلب الخاشع: واضحًا، هادئًا، موقّرًا، لا يطلب انتباهًا، لكنه يأخذه دون عناء.

ابتسامته وحدها كانت مدرسة تربية. ما ضرب طالبًا، ولا عنّف صغيرًا، بل كان إذا أخطأ أحدهم، ابتسم وقال: “أعدها، ستتقنها قريبًا إن شاء الله.” كانت ابتسامته تُعلّم وتُصحّح وتُشجّع وتُداوي.

سماحته كانت دائمة، وعفوه كان سابقًا على العقوبة. لم يُعرف عنه أنه نهر طفلًا، أو ردّ على متعلم بغلظة، بل كان يُربي برفق، ويعلّم بصبر، ويُصلح بالكلمة الطيبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه.”

كان تواضعه سجيّة راسخة، لا تصنّع فيها ولا تكلّف، تظهر في هيئته، وتنعكس في تعامله، ويشعر بها كل من اقترب منه. لم يعرف طريق الاستعلاء، ولم يلتفت يومًا إلى موضع يرفعه فوق الناس، بل كان يُفضّل أن يبقى بعيدًا عن الأضواء، حاضرًا في القلوب، غائبًا عن التصدُّر. لا يطلب كلمة شكر، ولا يفرح بالثناء، وإذا لمس من الناس تقديرًا، ردّ بلطف وسكون، وكأنه يخشى على إخلاصه أن يُمسّ.

كان هادئ الحضور، ثابت الخطى، يتحدث بقدر الحاجة، دون زيادة، وإذا تكلم اختار كلماته بدقة، بلا ادّعاء أو تزويق. لا يرفع صوته، ولا يدخل في جدال، ولا يتكلف حديثًا ليُقال عنه شيء. وكان يقول دائمًا: “العلم يُوقّر بالسكينة، والقرآن لا يُحمل في القلوب الصاخبة.”

لم يكن يتقدم الصفوف، ولا يسعى إلى المراكز، وإن دُعي إلى مجلس، جلس حيث يُجلس، لا حيث يُظهَر، وإذا نودي، ردّ بخفض صوت، وفي وجهه حياء الصالحين. قال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) [الفرقان: 63]، وقد كان الشيخ من هؤلاء، يمشي بين الناس برحمة، ويتعامل معهم بلين، لا يرى لنفسه فضلًا، ولا يتعالى على أحد، لكنه كان في قلوبهم أسبق، وفي أعينهم أعظم، دون أن يطلب ذلك أو يسعى إليه.

أما قناعته، فكانت حديث كل من عرفه. لا يطلب شيئًا من أحد، ولا يشتكي، ولا يُظهر حاجة. وكان يقول: “من قنع، اغتنى، ومن رضي، ارتاح.” وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.” (رواه الترمذي)

قضى حياته في خدمة كتاب الله، لم يبحث عن شهرة، ولم يطلب تريند، بل اكتفى بأن يُقال في السماء: “فلانٌ خادمٌ للقرآن”، فبارك الله له في عمره، ووقته، وصحته، وأثره.

وبركته لم تقتصر على نفسه، بل امتدت أثرًا طيبًا في طلابه وأولاده معًا.
فكل طالب جلس إليه، حمل معه من نوره وخلقه كما حمل من حفظه. كثيرون ممن حفظوا على يديه صاروا أئمة ودعاة ومعلمين، وبعضهم التحق بالأزهر، وكانوا جميعًا يذكرون اسمه بخشوع ومحبة، لا من باب الذكرى، بل من باب الفضل الذي لا يُنسى.

وأما أولاده، فكانوا خير ثمرة لزرع مبارك. نشأوا على ما نشأ عليه والدهم: ستر، حياء، خُلق، ومقام طيب بين الناس. ما عُرفوا إلا بالأدب والسمعة الحسنة، وما سُمع عنهم إلا ما يُرضي ربهم ويُسعد والدهم. قال تعالى: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) [الكهف: 82]، فكان صلاحه سببًا في حفظهم، وستره عليهم، ورفع شأنهم في العيون والقلوب.

وما كان هذا الأثر المبارك، ولا هذا القبول الواسع، إلا من بركة القرآن، ومن فضل الله الذي يُجريه على أيدي عباده المخلِصين. فالقرآن لا يُؤتي ثماره إلا في قلوب أخلصت له، ولا يثبت أثره إلا فيمن خدمه محبةً وصبرًا، لا رياءً ولا طلبًا لمكانة. وقد كان الشيخ محمد عمارة من هؤلاء؛ عاش للقرآن، فحفظ الله له الذكر، ومدّ له في الأثر، وأجرى الخير على يديه في طلابه وذريته وسيرته.

وما دامت أمة الإسلام تنبض في جنباتها قلوب تتعهد كتاب الله حفظًا وتحفيظًا، تدبرًا وتعليمًا، عملًا وتطبيقًا، فبشراها بخير لا ينقطع، ونور لا يخبو، وأمل لا يموت. فالقرآن إذا نزل في القلب أحياه، وإذا استقر في السلوك زكّاه، وإذا اجتمع مع الإخلاص رفع صاحبه في الدنيا والآخرة.

وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “إن لله أهلين من الناس.” قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: “هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته.” (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه). وهكذا كان الشيخ محمد عمارة من أهل الله وخاصته، نحسبه كذلك، ولا نزكي على الله أحدًا.

وأنا أكتب هذه الكلمات، فإنما أكتبها وفاءً لرجلٍ عظيم، له عليّ وعلى أجيال عديدة من أبناء قريتي فضل كبير لا يُنسى، وأثر عميق لا يُقدّر. فقد كان من الذين يزرعون في القلوب نور القرآن، ويغرسون في النفوس خلقه وسكينته. وأسأل الله تعالى أن يعوّض قريتنا عنه بخير من يحمل لواء القرآن بعده، لتظل البركة ممتدة، والنور موصولًا، والذكر باقيًا فينا ما بقيت تلاواته، وسيرته، وآثاره.

اللهم يا واسع الكرم، يا منزّل الكتاب، ومكرّم من خدمه بإخلاص، اجزِ عبدك محمد عمارة خير الجزاء، وبلّغه منازل أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك.
اللهم اجعل القرآن شفيعه، والتلاوات التي علّمها نورًا في قبره، والوجوه التي حفِظت بين يديه شاهدًا له لا عليه.
اللهم نوّر مضجعه، وارفع درجته، وبارك في ذريته وطلابه ومحبيه، وارزقهم السير على نهجه، والثبات على ما كان عليه من صدق وورع وعطاء.
اللهم أكرم نزله، ووسّع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الذنوب والخطايا كما يُنقّى الثوب الأبيض من الدنس.
واجعل لنا من بعده خلفًا مباركًا، واملأ بيوت المسلمين بمَن يُحيي القرآن علمًا وخلقًا وسلوكًا، إنك وليّ الفضل، وأهل الرحمة، ولا يُضيع عندك عمل مخلص، ولا يُنسى لك عبدٌ صالح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

search