
محمد أبو تريكة.. غزة تناديك فهيا لترفع رأسك
لطالما حظي محمد أبو تريكة بمكانة استثنائية في قلوب جماهير الكرة المصرية والعربية، لاعب موهوب، خلوق في مظهره، محبوب بين الناس، استطاع أن يسطّر اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ الكرة، وأن ينال احترام الجماهير بمهاراته وأهدافه الحاسمة وروحه الرياضية الرفيعة.
غير أن هذه النجومية لم تظل حكرًا على المستطيل الأخضر، بل تحوّلت مع الوقت إلى منصة تخدم توجهات سياسية بعينها، حين اختار أبو تريكة أن يُسخّر شعبيته في تمرير خطاب جماعته، حتى وإن جاء ذلك على حساب قضايا الوطن الكبرى أو مواقف الدولة التي رعته واحتضنته.
وقد تجلّى هذا التداخل بين الرياضة والسياسة مبكرًا في واقعة استاد بورسعيد عام 2012، حين راح أكثر من سبعين مشجعًا من جماهير الأهلي ضحايا مجزرة دامية، كان أبو تريكة حاضرًا في قلبها، وعند عودته إلى القاهرة، استقبلت الدولة بعثة الفريق رسميًّا، إلا أن أبا تريكة رفض مصافحة المسؤولين، في تصرف فسّره كثيرون على أنه تحميل مباشر للدولة مسؤولية ما جرى، دون دلائل أو تحقيقات، في انسجام واضح مع أجندة الجماعة التي سعت إلى توظيف الحادث سياسيًّا، وبثّ الكراهية بين الشعب ومؤسساته.
ثم جاءت أحداث رابعة العدوية لتكشف ما كان مستترًا، وتؤكد أن انتماء أبو تريكة العقائدي والسياسي يتقدّم على انتمائه الوطني. إذ تماهى مع خطاب الجماعة في توصيف الأحداث، وتبنّى روايتها دون نقد أو مراجعة، صامتًا عن تجاوزاتها، ومتمسكًا بخطاب يزرع الفرقة بدلًا من اللحمة، والانقسام بدلًا من التماسك.
ولم يكن ظهوره على الهواء في إحدى الاستوديوهات الرياضية خارج مصر للحديث عن غزة سوى حلقة جديدة من هذا الخطاب العاطفي، حين قاطع التحليل الرياضي ليقول للمشاهدين، وهو بكامل أناقته، واضعًا يده في جيب سترته: “إحنا بنمشي موطّيين راسنا”، في تعبير بدا أقرب إلى حماس خطابي من موقف عملي، وربما كان الهدف منه دغدغة المشاعر أكثر من إحداث تأثير فعلي في الواقع.
وما يثير الاستغراب، بل ويدعو إلى الاستعجاب، أن هذا الحماس الخطابي لم نجده عندما زار الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب دولة قطر، في ذروة عدوان جديد على غزة، فقد حضر ترامب عرض رقصة “العرضة”، ورقص بين جنوده داخل قاعدة أمريكية في قطر، دون أن يصدر عن أبي تريكة – المقيم في الدوحة – أي تعليق أو تلميح أو حتى تغريدة، لم ينبس ببنت شفة، ولم يُبدِ رأيًا، وكأنّ الغضب لا يُعلَن إلا حين يكون موجّهًا إلى دول بعينها، بينما تُستثنى الدول التي تحتضنه أو ترتبط بجماعته.
وإلا، فبِمَ نفسّر صمته، بل واختفاءه، دون أن يصدر عنه حتى اليوم أي تلميح أو إشارة، رغم ما شهده ذلك التوقيت من استفزاز علني لمشاعر العرب والمسلمين؟ أليست هذه انتقائية فجة في المواقف، تؤكد أن حساباته الشخصية والأيديولوجية تتقدّم على أي اعتبارات وطنية أو إنسانية؟ وأن مواقفه تخضع لمعادلة المكسب والخسارة، له ولجماعته، لا لمعيار المبدأ والثبات؟
وبينما كان ترامب يرقص على أرض قاعدة عسكرية في قطر، كانت مصر – التي صنعت نجمك يا أبا تريكة – تعلن موقفها في وضوح لا لبس فيه: لا للتهجير، لا لتصفية القضية، لا للتفريط في الحقوق، لا لقتل المدنيين، لا للمساومة على الكرامة. في مفارقة لافتة تعكس الفارق بين من يتكلم، ومن يتحمّل.
ومع ذلك فإن أبا تريكة لا يكاد يذكر مصر في أحاديثه، لا شهداءها، ولا جيشها، ولا فضلها عليه، بينما لا يتوقف عن التغني بقطر وقياداتها. وهو ما يدفع للتساؤل: أليست مصر هي التي رعته، واحتضنته، وقدّمته إلى الجماهير، وأفسحت له الملاعب والمنصات؟ لولا مصر، ما عرَفته قطر، وربما ما لعب على ملاعبها أصلًا.
وإذا أردنا مقارنة عادلة بينه وبين نجم مصري وصل للعالمية ومع ذلك لم يتخل عن مصريته، فإن محمد صلاح – نجم الكرة العالمية – يمثل نموذجًا مضيئًا لما ينبغي أن يكون عليه من يحمل اسم وطنه. لم يتكلم كثيرًا، لكنه فعل كثيرًا. لم يرفع شعارات، بل رفع راية مصر في كل محفل. لم يتبنّ خطابًا حزبيًا، بل جسّد صورة المصري الحقيقي الذي يعمل بصمت، ويُنجز بإخلاص، ويدافع عن بلده بالسلوك الراقي، لا بالخطب الحماسية.
وفي خضم ذلك، نؤكد جميعًا – بلا مزايدة – أننا مع غزة وأهلها، ضد العدوان، وضد التهجير، ومع حقهم الكامل في الحياة والحرية والدولة. لكننا نرفض أن يُزايد أحد علينا، أو أن يتاجر بقضية عادلة لمجرد كسب سياسي أو نجومية إعلامية.
كما أننا نُعلن – بوضوح – احترامنا الكامل لدولة قطر، قيادةً وشعبًا، وتقديرنا لمواقفها الداعمة للقضية الفلسطينية، وحقها الكامل في اتخاذ قراراتها السيادية بما يخدم أمنها ومصالحها. غير أن حديثنا هنا لا يتناول قطر، بل يتناول ازدواجية المعايير في خطاب محمد أبو تريكة، الذي ينتقد حين يناسبه الظرف، ويصمت حين يُهدّد صمته مصالحه أو علاقاته.
وفي الختام، أقول لك يا أبا تريكة: نعم، نختلف معك في المواقف والانتماء، لكننا لا نرضى لك أن تعيش مطأطئ الرأس، وأنت الذي عرفت بين الناس بصورة المدافع عن المظلوم، المتألم لأهل غزة، الغيور على كرامتهم وحقهم في الحياة.
وغزة اليوم، يا أبا تريكة، لا تزال تنزف، والعدوان لم يتوقف، والمنازل تُقصف فوق رؤوس أصحابها، والأطفال يُمزَّقون، والنساء يُفجعن، والشيوخ يُدفنون تحت الركام. فأين أنت من كلماتك التي قلتها يومًا: “نمشي منكّسين رؤوسنا”؟! أيرتفع الرأس بالكلمات فقط، أم بالمواقف التي تُكتب في سجل الشرف، ويشهد لها الميدان لا الميكروفون؟
غزة اليوم لا تنتظر صدى الأصوات من خلف الشاشات، بل تنتظر من يمدّ لها اليد من قلب الميدان. لا تنشد من يصف جراحها بعبارات منمقة، بل من يضمدها بالفعل والدمع والدم. لا تحتاج من يلوّح بشعاراتها من بعيد، بل من يحمل رايتها في وجه الموت، ويمضي بها ثابتًا في خطوط النار.
فالجبهات مفتوحة، والخنادق تنادي، والرجولة لا تُقاس برفع الصوت، بل بثبات الموقف، ولا تُعرف في حماسة العبارات، بل في صدق العطاء حين يحين الامتحان.
وها هو الطريق أمامك، لا عذر يمنع، ولا عائق يحول دونك إن صدقت النية وعزمت السعي. فشدّ رحالك إليهم، وخذ من أرضهم سلاحك، ودافع عن قضيتك كما تؤمن بها، لا كما تُحدّث بها الجماهير.
فإن انتصرت، كنت فخرًا يُذكر، وإن استُشهدت، خلّدك التاريخ في سجل الأحرار، ورفعت رأسك ورؤوسنا معك.
فالنضال الحق لا يكون من داخل الاستوديوهات، بل من الخنادق وعلى الجبهات.
لا بحمل الميكروفونات بل بحمل السلاح
والمواقف وحدها، لا الشعارات، هي التي تصنع المجد وتخطّ سطور الخلود.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
شيخنا الحاج محمد عمارة.. جبل النور في محراب القرآن
22 مايو 2025 02:13 م
مظهر شاهين يكتب: ترامب ترامب “اسم الله عليه”
13 مايو 2025 03:56 م
أكثر الكلمات انتشاراً