السبت، 14 يونيو 2025

12:53 ص

حسين القاضي
A A

من شطورة إلى البقيع.. إمام العلم والمروءات الشيخ عمر عبد الراضي

حين تُذكر سيرة الصالحين، يطيب للقلب أن يقف عند شيخٍ قضى عمره في العلم والعطاء، وختمه ساجدًا في طيبة المنورة، بين يدي مولاه، إنه الشيخ عمر عبد الراضي، نورٌ أزهريٌ أضاء صعيد مصر بالعلم والمحبة، وسَرت بركته بين الناس حتى صار حنانًا نأوي إليه وذكرى خالدة في القلوب.

تأتي في هذه الأيام ذكرى وفاة العالم الأزهري الجليل الشيخ عمر عبد الراضي 1961م، الذي توفي بعد أدء فريضة الحج، إنه العارفُ بالله، وقُطبُ الزمان، ومفتي شطورة والقرى المجاورة ومرجعيتُها الكبرى، والفقيهُ الصوفي الحنفي، والأزهر الصغير، أي الذي اجتمعت فيه صفات الأزهر وأركان منهجه من أشعرية العقيدة ومذهبية الفقه وخلق التصوف، ورجلُ المروءات والكرامات، ودفين المدينة المنورة، سيدي الإمام العَلَّامَة الشيخ "عمر عبد الراضي السيد عبد الراضي"، سيد عائلة أولاد الشيخ - عائلة العلم في شطورة (التابعة لمركزها طهطا بسوهاج)، وسيد فقهاء قريته والقرى المجاورة، والنبع العذب، والنبت المزهر، والصوت المجلجل، الذي كان يُقتدي بفعله، ويُهتدي برأيه، وإن الشيخ لهو باسطٌ سلطانه العلمي والأخلاقي باعتراف الجميع.

وقد وردت ترجمة الشيخ الجليل في عدة مصادر، حيث ترجم له العَلَّامَة الكبير الدكتور الشيخ أسامة الأزهري -وزير الأوقاف- في موسوعته (الجمهرة الكبرى)، وترجم له الأستاذ سالمان عبيد في كتابه: (شخصيات تنويرية)، ووردت ترجمتُه أيضا في كتاب (الجمهرة الوسطى) للدكتور أحمد نبوي الأزهري المالكي، وكانت مختصرة، وورد اسمه في (الجمهرة الصغرى)، ووردت بعض ترجمة له في مقال بصحيفة (اليوم السابع) عنوانه: "في البقيع لنا أحباب"، للصحفي الأستاذ محمود عبد الراضي، كتبه من أمام قبر الشيخ بالمدينة المنورة، والترجمةُ الموجودةُ في كتابي هي أعم وأوسع ترجمة للعَلَّامة الجليل، وهناك في حياة الشيخ الجليل من الزاويا التي لم أذكرها مما يصلح أن تخرج سيرته في كتاب مستقل- عسى أن يكون قريبا-.
يقول شيخنا الدكتور أسامة الأزهري ما خلاصته: “العَلَّامَة الشيخ عمر عبد الراضي الشطوري عالم فرضي جليل، ولد يوم 20 /10 / 1893م، وحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، والتحق بالأزهر الشريف، حيث تلقى العلوم في صحنه وأروقته على يد علمائه الأجلاء، ونال العالمية من الأزهر، وتصدر للفتوى، وكان بارعا في علم المواريث، وعمل في أول الأمر محفظا للقرآن الكريم في مدرسة الشيخ هدهد ومدرسة النجار، وعاصر المشايخ الأجلاء، أمثال: الشيخ أحمد علي عبد الهادي الجمولي، ورضوان مهران درويش، ومحمد أحمد حسن، والشيخ علي يوسف درويش، وتتلمذ له الكثير من الأعلام، توفي ساجدا وهو يصلي، ودفن بالبقيع”

يقول الأستاذ محمود عبد الراضي في مقاله: "ذاع صيت الشيخ في جنوب الصعيد، حيث كان يأتي المواطنون إليه من كل مكان للحصول على فتوى،  كما كان له عمود في الجامع الأزهر يأتي إليه طلاب العلم من كل حدب وصوب، ليتلقوا عليه يديه الفقه الحنفي وأصول الفقه".

هذا وقد حصل الشيخ على إجازة الفتوى من الأزهر الشريف على مستوى العالم الإسلامي، وأفاد بعلمه وفضله، وعمل بالتدريس في مدرسة كوم العرب، وبني حميل، وأجرى صلحا في الثأر هناك، وعمل ناظرا لمدرسة الإسلامية بطهطا، ومازال الناس هناك يشيدون به، ويُرجعون له الفضل في نشر الوعي العلمي المنضبط في هذه القرى.

وتصدر - رحمه الله- للفتوى والتدريس، فأقبل الناس عليه يتدافعون، حتى تخرج على يديه جل مشايخ شطورة في وقته، ومن تلامذته الأستاذ المرحوم علي أبو القاسم علي، والشيخ المرحوم محمد عبد المطلب، والأستاذ محمد مسلم، وأخوه الأستاذ علي، والأستاذ المرحوم عبد الرحمن عبد الراضي، وما من عائلة في قريته إلا والشيخ له فيها تلميذ، حتى إن الناس في القرية يتمنون الانتساب إليه، فلا يكاد أحد رأه أو جلس معه أو التمس منه إلا وقال أنا تلميذ الشيخ عمر أو قريبه.
وكان - طيب الله مضجعه - يحب أهل العلم ويكرمهم، وسمعت/ الحاج محمد عبد القادر محمود شحاتة القاضي أنه ذهب للشيخ وهو شاب صغير، فلما رآه الشيخ أكرمه محبة لوالده الشيخ عبد القادر القاضي، حيث إن الشيخ عبد القادر والشيخ عمر عملا معاً في مدرسة القاضي، وأول مدرسة عمل بها الشيخ عمر هي مدرسة القاضي كما جاء في مقال قديم بعوان: "التعليم وتاريخه في شطورة، كما جاء في مقال للأستاذ عبده أحمد عبد الرحمن أبو طالب الجمولي، منشور بمجلة نهضة شطورة، العدد الثالث، أبريل، 1987م.

وكان الشيخ عمر يجالس كل شرائح المجتمع، وله مريدون ورصفاء كثر، وله صداقات مع مصطفي باشا النحاس وبعض أعضاء حزب الوفد، ومع المنشد الصوفي الكبير الشيخ السيد النقشبندي، وقد زاره في منزله، وله صداقة مع كمال الدين حسين وزير التعليم، وعدد من القامات العلمية والسياسية في مصر.

ومن سماته- رضي الله عنه وأرضاه- التواضع الجم، واتساع صدره للجميع، وكان منزله خلية نحل، لا يخلو من صاحب عوز فيعطيه، أو متحير فيُفتيه، أو متنازعين فيصلحهما، ويجلس مع الجميع، ويقدم الفتوى المنضبطة غير الحماسية المدركة للواقع، ولا يأكل حراما قط، ولا يدخل بيتُه مالا فيه شبهة، ويبغض العصبية العائلية جدا، ويرى أنها من مواريث الجاهلية العفنة، وإذا اختصم عنده اثنان أحدهما من عائلته والآخر من عائلة أخرى يقضي بينهما بالحق والعدل، وينتصر للبعيد قبل القريب، وكلمتُه في الحكم جهيرة مسموعة، لا تعقيب عليها، ولرأيه هيبة ووقار من الجميع.

وللشيخ - رضي الله عنه- مجهودات مضنية في إغاثة الملهوف، وعون السائل، وتضميد الجراح، وكفالة الأيتام، وسد حاجة من قدر عليه من أهل العوز والفاقة، وعندما توفى تبين أنه كان يعول حوالي عشرة أسر، لا يعلم أحد بذلك، ولا يفتخر بعمله، ولا يطلب منزلة وشهرة، وحين كبر اثنان منهم سموا أبناءهم على اسمه، تقديرا لفضله، ولولا أن الشيخ لا يرضيه ذكر أسمائهما لذكرتهما.
ومن النوادر أن فضيلة الشيخ محمد عبد المطلب تقدم لخطبة ابنته الوحيدة، فاشترط الشيخ أن يمتحنه أولا، وبالفعل أخذ الشيخ عمر يسأله في القرآن والفقه واللغة، والشيخ محمد يجيب، وتمت المصاهرة نسبا، فتزوج الشيخ ابنة أستاذه، وقبلها المصاهرة العلمية، حيث إن الشيخ محمد تلميذ الشيخ عمر، فانظر إلى قدر العلم ومكانته عند الشيخ.
كما أن الشيخ كان يحذِّر من العادة السيئة المنتشرة بين بعض الناس، حين تتزوج الفتاة شابا دون معرفتها به، إذ يرى الشيخ أن التوافق والرضا في الزواج مدخل السعادة والاستقرار، وأنه لابد من أن ينظر الخاطب إلى مخطوبته والعكس، ويدور بينهما حوار راقٍ، ليتعرف كل منهما إلى الآخر عن قرب، حتى يأخذ قرار مناسبا، مما يدلك على أن تدين الشيخ كان تدينا أخلاقيا سهلا، وليس تدينا منغلقا.
والشيخ- نَضَّرَ اللهُ وجْهَه- كان يكره لفظ (الطاقة) لأنها قريبة من لفظ (الطلاق)، والحقيقة أن كلمة (الطاقة) لا علاقة بينها وبين كلمة (الطلاق)، ولا يوجد قرب بينهما، لكن هذا ينبؤك بمدى حرص العالم الكبير على التحري في انتقاء الألفاظ، وانتخاب الكلمات الجميلة، والبعد عن الكلمات الملتبسة، وتعوّد الأذن على سماع الجميل الراقي.
وإن العلم في حياة الشيخ الجليل عمر لهو محفوف بعشرات العوامل التي صنعت هذا الجو، فعوامل التوفيق التي مُنِّي بها لم تكن بمعزل عن عوامل التنوير والربانية والمصداقية والتصوف والبصيرة، وخلو القلب من التعصب والحقد والعجب والكبر، وليس أقل من أن يُطلق اسم الشيخ على أحد المساجد، حتى يخلدَ ذكرُه، وهو مخلد بالفعل.
وقبل ذهابه للحج أصابه المرض، وكان الناس يقولون له: "تروح وترجع بالسلامة يا شيخ عمر"، فيقول: "سوف لا أعود، وأموت هناك؛ لأنها أمنيتي"، وقد خرجت قريته عن بكرة أبيها إلى محطة طهطا لتوديعه، وجاء خبر منعاه قبل وفاته بصورة رسمية، حيث أرسل الشيخ خطابا قبل وفاته لأسرته، طلب فيه السلامَ والدعاء من السيدة الصالحة الورعة الحاجة "عزيزة فاضل"، فلما وصلها سلامُه شعرت أن الشيخ قد غادر الدنيا، فذهبت إلى منزله تنعيه، ولم يكن خبر وفاته قد وصل الناسَ بصورة رسمية، وتلك كرامة لها.
وبعد أن أدى الشيخ فريضة الحج عام 1961م توجه تلقاء المدينة المنورة، ليزور طيبة ومسجدها وقبر ساكنها عليه أفضل الصلوات والتبريكات، وهناك أقبل اليقينُ، إذ كان الشيخُ يصلي ببعض الناس، حتى وصل إلى قوله - تعالى-: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾، فسجد وأطال السجود جداً، وانتقل على هذه الحال الربانية إلى جوار ربه ساجداَ قانتاَ خاشعاَ، وقابل الشيخُ الموردَ المحتوم، وما أحلاه مورداً حين يكون بهذه الصورة، وألسنة الناس في شطورة والقرى المختلفة متوهجة بالثناء على مفتي شطورة، ورجل العلم والوسطية والمروءات، وكبَّر المغسِّلُ لروعة ما رأى من نورٍ وجمالٍ وجلال، وصَلى عليه في المسجد النبوي الشريف طوفان من البشر، زاد على الربع مليون، وتحرك موكب الوداع إلى بقيع الغرقد، ليُدفن بجوارِ أوفى العالمين بذمةٍ، وأعزِ من بالقرب منه يُباهى، سيدِ الرسلِ أجمعين، وتحقق للشيخ مرادُه، ودفن بطَيبة، بجوار الحبيب الأعظم، وبجوار سرج الهدى، وعترتة آل البيت، ولسانُ حاله يردد:


دار ُ الحبيب ِ الحقُّ أن تهواها ** وتَحنُّ من طربٍ الى ذِكراها
وعلى الجفونِ إذا هممتَ بزورَةٍ ** يا ابن الكرام ِ عليك أن تغشاها
فلأنتَ أنتَ إذا حللت بطيبةٍ  **  وظللت َ ترتعُ في ظِلال رُباها
هذي محاسِنها فهلل من عاشقٍ **  كَلِفٍ شَــــــــجِيٍّ ناحلٍ بنواها
بجوارِ أوفى العالمين بذمةٍ **  وأعز من بالقرب منه يُباهى
وعلى الأكابرِ سُرُجِ الهُدى **  أكرِم بعترتهِ ومَنْ والاها
وكذا السلامُ عليه ثُم عليهِمُ  ** وعلى صحابتهِ التي زَكاها
 

وإنني أقول ما قاله شيخ العربية محمود شاكر في مصطفى صادق الرافعي "بأن الرافعي صار ميراثا نتوارثه، وحنانا نأوى إليه"، وكذلك يكون الشيخ عمر "ميراثا نتوارثه، وحنانا نأوى إليه"، سلامٌ على الشيخ، وعلى كل الأكابر سُرُج الهدى والنور، وسلامٌ عليهم في الخالدين.

search