
إيران وإسرائيل.. من المتحكم بالصراع؟
في قلب منطقة أنهكتها النزاعات، وأصبح لون الدم هو اللون الطاغي فيها، يشتعل فتيل مواجهة غير مسبوقة بين قوتين لطالما تبادلتا التهديدات إما من خلال الشاشات أو عبر الوسطاء، ولكن هذه المرة لا يبدو أن ما يجري هو مجرد مناوشات اعتيادية أو توتر عابر سرعان ما ينكفئ تحت وطأة وساطات دولية مألوفة، المواجهة الحالية تلامس حدود الحرب دون أن تتخطّاها، فهي أشبه بنزال ملاكمة يسمح فيها بكل صنوف الإيذاء باستثناء الموت.
تبدأ القصة من عمق التبدّلات الجيوسياسية التي عصفت بالشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين، والتي جعلت من كل احتكاك يتحول إلى بذرة تقود لانفجار أكبر، لكن ما نشهده اليوم بين إيران وإسرائيل لا يُعد تصعيدا منضبطا كما ألفناه سابقا ولا حربا شاملة ذات أفق مفتوح، بل هو ما يمكن تسميته بحالة "العسكرة الهجينة" التي تحمل في طياتها الكثير من الدمار والخراب، ولكن لا ترتقي لأن تكون حرب شاملة، وذلك لكونها تخضع لحسابات دقيقة تضمن بقاءها ضمن سقف السيطرة، دون أن تنفلت إلى مواجهة إقليمية كبرى.
في ظاهر الأمر يبدو أن الطرفين منغمسان في جولات متكررة من تبادل الضربات، إلا أن التمعّن في مشهد الصراع يكتشف طبقات أكثر تعقيدا تتجاوز الفاعلين المباشرين لتصل إلى غرف القرار البعيدة، حيث تدار الملفات الأكثر حساسية على طاولات البيت الأبيض، فمنذ البداية لم يكن الصراع بين طهران وتل أبيب إلا رقما في معادلة أكبر تمسك بمفاتيحها واشنطن.
إيران طوال السنوات الماضية أظهرت حرصا بالغا على تجنّب الصدام المباشر مع الولايات المتحدة رغم احتدام العداء الظاهري بين طهران وواشنطن، وبالمقابل لم تخرج إسرائيل يوما من العباءة الأميركية في قراراتها العسكرية الكبرى، إذ لطالما كانت تخشى تبعات أي تصرف قد يغضب الحليف الأمريكي، غير أن التصريحات المتناقضة التي صدرت مؤخرا عن الإدارة الأميركية، ولا سيّما الصادرة عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما يخص الصراع الدائر توشي برغبة أمريكية في تطوره، فهذه التصريحات لم تكن نتاج ارتباك دبلوماسي أو رعونة سياسية، بل كانت جزءا من استراتيجية خلط أوراق مدروسة تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد بأكمله.
إذا ما أمعنّا النظر في خريطة المصالح وتشابكاتها، يتضح أن ما يجري لا ينسجم مع الرؤية الأميركية فحسب، وإنما يلتقي أيضا مع مصالح شركائها التقليديين في الشرق الأوسط، الذين باتوا ممتعضين من سلوك النظام الإيراني من جهة، ومن ممارسات حكومة نتنياهو اليمينية من جهة أخرى، هذا التلاقي في التوجه بين واشنطن وحلفائها الإقليميين، يمنح الولايات المتحدة مساحة أوسع لتغذية الصراع ضمن حدود محسوبة تتيح لها فرض إصلاحات جزئية على النظام الإيراني، تعيد تكييفه بما يتناسب مع ضرورات المرحلة دون تقويض بنيته بالكامل.
وفي ذات الوقت تمارس هذه الفوضى المنظمة ضغطا شعبيا متصاعدا داخل إسرائيل، قد يفضي إلى إسقاط حكومة نتنياهو المدعومة من اللوبيات الصهيونية في الخارج، حيث أن هذه الحكومة باتت عبئا لا يطاق حتى في عيون أقرب الحلفاء، وهنا لا يفهم الصراع كغاية في ذاته، بل كأداة فعالة لإعادة هندسة المشهد السياسي في كلا الجانبين، بما يضمن توازنا جديدا يخدم واشنطن ويطمئن حلفاءها في آن معا.
ومن جانب آخر تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على تجربة "الإسلام السياسي" في المنطقة، ولكن بنسخة أكثر عصرية وأكثر ليونة من النموذج الإيراني القائم، فنموذج الإسلام السياسي الشيعي على ما فيه من عداء للغرب في الخطاب، فإنه كان ولا يزال ورقة مفيدة للسياسات الأميركية، حيث يتم توظيفه في تبرير تدخلات جيوسياسية في إعادة رسم حدود النفوذ، وتمرير مشاريع إعادة تشكيل المنطقة، وربما ما يزيد من رغبة واشنطن في الحفاظ على النظام الإيراني الحالي هو غياب البديل بعد انهيار تجربة الإسلام السياسي السني، لا سيما مع سقوط حكم الإخوان في عدد من الدول العربية، فباتت واشنطن حريصة على ألا تخسر ما تبقى من هذه الورقة.
تأتي هذه المواجهة لتخدم هذا الهدف المزدوج والمتمثل في الضغط على طهران باتجاه الإصلاح دون إسقاط النظام، وإزاحة نتنياهو دون انهيار منظومة الحكم، وبين المطرقة والسندان تراكم الولايات المتحدة أوراق الضغط لتعيد تشكيل ميزان القوى، مستفيدة من هذا الصراع الدائر لتحويله لأداة تفكك من خلاله أزمات المنطقة.
أما عن أمد هذه المواجهة فمن غير المرجح أن تطول لأكثر من أسابيع لا تتجاوز في مجموعها شهرا واحدا، لأسباب متعدّدة؛ فإسرائيل التي أنهكتها حرب غزة ليست معتادة على خوض حروب طويلة، لا سيما مع دول ذات قدرات صاروخية بعيدة المدى.
وعلى الطرف الآخر فإن إيران تدرك أن دخولها في صراع مفتوح سيكلفها الكثير على المستوى الاقتصادي والسياسي، ويهدد استقرار حلفائها في المنطقة، أضف إلى ذلك أن غياب الحدود المشتركة بين الطرفين يجعل من مسرح المعركة محكوما بأجواء دول أخرى، وجميع هذه الدول أعلنت رفضها لأن تكون أجواؤها ساحة حرب بالوكالة.
الخوف الحقيقي يتمثل في احتمال توسع دائرة النزاع وجرّ قوى إقليمية أخرى إلى ميدان المواجهة، وهذا ما تخشاه القوى الدولية الكبرى التي لا تزال تفضل إبقاء النزاع ضمن هامش قابل للضبط، تجنّبا لانزلاق إقليمي شامل.
جميع الشواهد تشير إلى أن ختام هذا الصراع سيكون مقرونا بإنهاء الحرب في غزة كمدخل لفرض تسوية شاملة، وإطلاق مرحلة جديدة عنوانها "إعمار ما دمرته الحروب"، وإرساء نظام اقتصادي إقليمي يدار بشراكة دولية، ويضمن مصالح الغرب دون استعداء حكومات وشعوب المنطقة.
إن ما نشهده اليوم ليس سوى مشهد من مشاهد ما يسمّى بـ"الفوضى الخلاقة"، تلك النظرية التي أضحت الركيزة الأساسية لكل تحرك أميركي في الشرق الأوسط، حيث تزرع بذور الخلافات والصراعات، لتقطف لاحقا ثمار الهيمنة، ولعل أخطر ما في هذه المواجهة أنها لا تدار من الأطراف الظاهرة وإنما من خلال لاعبين مخفيّين يتقنون فن تحريك الجمر دون أن تحترق أصابعهم.

الأكثر قراءة
-
حظك اليوم الأحد 15 يونيو 2025.. اختفاء مفاجئ لدافعك والطاقة منخفضة
-
إزاي تجيب نتيجة تالتة إعدادي 2025؟.. اعرف الخطوات
-
إجابات امتحان الدين للثانوية العامة.. اعرف درجاتك
-
ملخص مباراة الأهلي وإنتر ميامي في مونديال الأندية 2025
-
موعد حفل افتتاح كأس العالم للأندية 2025 بتوقيت مصر
-
قبل ساعات من انطلاقه.. صفحات الغش تزعم تداول امتحان الدين للثانوية العامة والتعليم: "مستحيل"
-
أسعار الذهب اليوم الأحد 15 يونيو 2025.. تحديث جديد بعد زيادة عيار 21
-
عدد أسئلة امتحان التربية الوطنية لثانوية عامة 2025

مقالات ذات صلة
عيد الجلوس الملكي.. رؤى وطموحات للأردن
11 يونيو 2025 10:37 ص
أكثر الكلمات انتشاراً