يا عزيزي.. كلنا عرايا
في زمن ما بعد الخصوصية، أصبح من السذاجة الاعتقاد بامتلاكنا حيزًا خاصًا محصنًا عن الأعين، فالتكنولوجيا اليوم لا تستخدم فقط كوسيلة تسهل الحياة، بل كأداة نفوذ وجمع معلومات وتحليل سلوكيات، تصب في خدمة من يملك "العدة" لا من يستخدمها.
"يا عزيزي، كلنا عرايا".. ليس لأننا لا نجيد استخدام الأدوات الحديثة، بل لأننا لا نملكها من الأساس، فنحن نستهلك التكنولوجيا، لا ننتجها، ونعيش داخل منظومات تشغيل، وشبكات، وتطبيقات أجنبية بالكامل، تتعامل معنا كمصادر بيانات، لا كمستخدمين.
لن أذكر أسماء شركات بعينها حتى لا يقال عني متحيزًا، فالفضائح التقنية متوالية خلال السنوات الأخيرة، وتكاد تكون بلا استثاء، ما يشير إلى حقيقة واحدة: "البيانات سلعة، والمستخدم منتج".
بين شركات تستخدم بيانات مستخدمي الشرق الأوسط وترسلها إلى الكيان المزعوم، ومنصات يروج لها باعتبارها "مشفرة وآمنة"، لكنها تمتلك "مفاتيح التشفير" نفسها، وحظر كبار الدول لشركات منافسيها بدعوى التجسس.
الأمر لم يعد خيالًا، فقد رأينا اختراق مسؤولي النظام الإيراني، وتفخيخ أجهزة البيجر قبل أن تصل إلى أيدي مستخدميها في حزب الله، فضلًا عن روسيا التي أُدخل إليها أجهزة "درونز" بطريقة لا تخطر على البال، كما أن أغلب قادة العالم لا يستخدمون الهواتف الذكية إلا في إطار ضيق جدًا.
الحوادث السابقة تكشف مدى هشاشة الاعتماد على أنظمة غير مصنعة محليًا، أو أنظمة أجنبية المصدر، ورغم أن الأمر مع كل حادثة لا يكون مفاجأة، لكننا نكتفي بالتنديد عبر نفس المنصات التي تراقبنا، وتحكمنا بأجنداتها ومصالحها هي، لا نحن.
يبرر البعض عدم القلق بالقول: "هل سيتركون كل العالم ويتجسسون على قرمط؟"، لكن الحقيقة أن "قرمط" ليس مجرد فرد، بل عينة في بحر بيانات ضخم، يُحلل بالخوارزميات، وتُستخرج منه الأنماط والنماذج.
لا أحد يراقبك بشكل فردي، لكن الذكاء الصناعي يقرأك جيدًا، ويفهم سلوكك، ويتنبأ بتصرفاتك، ومن هنا تبدأ خطورة التبعية، حين تصبح معلوماتك جزءًا من أدوات اتخاذ القرار لدى جهات لا ترى فيك إلا رقمًا أو تهديدًا محتملًا.
نظام التشغيل، والهاتف، وشبكة الاتصالات، والسيرفرات التي تستضيف البيانات.. جميعها خارج السيطرة الوطنية، وما دامت التكنولوجيا في يد الآخر، فسيادتك الرقمية منقوصة، وأمنك القومي معرض للخطر.
استمرار الاعتماد الكامل على الخارج في مجال التكنولوجيا لم يعد خيارًا قابلًا للاستمرار؛ ففي عالم تدار فيه السياسة والاقتصاد والأمن عبر البيانات، تصبح القدرة على إنتاج التكنولوجيا الوطنية مسألة وجود، لا رفاهية.
ما نحتاجه ليس مجرد شركة اتصالات أو مصنع هواتف، نحتاج إلى مشروع وطني متكامل، يشمل: تطوير أنظمة تشغيل خاصة، ودعم الأبحاث في الذكاء الاصطناعي محليًا.
وكذلك بناء مراكز بيانات داخلية محمية ومملوكة للدولة، وتطوير معالجات ورقائق إلكترونية، أو على الأقل تقنيات تجميعها، وتشجيع الابتكار التقني من خلال حاضنات حقيقية للشركات الناشئة.
باختصار "إما أن ننتج، أو نبقى مكشوفين"، فالعالم لن ينتظرنا، والخصوصية لن تعود، لكن الاستقلال الرقمي لا يزال ممكنًا إذا تحركنا سريعًا، بعقل الدولة، لا عقل المستهلك.
“يا عزيزي.. كلنا عرايا”، لكن الفارق أن البعض بدأ في صناعة ملابسه، بينما نحن ما زلنا ننتظر من يكسونا، والأمر لا يتوقف على جهد الدولة فقط، بل يتطلب مشاركة القطاع الخاص ورجال الأعمال.
الأكثر قراءة
-
الموت يفجع أسرة الزعيم عادل إمام
-
كم يوم متبقي على رمضان 2026؟.. الموعد الفلكي وعدد الأيام
-
أول صور للمتهمين بالتعدي على صغار مدرسة دولية بالتجمع الخامس
-
جرائم تهز المدارس.. تحرك برلماني لمواجهة التعدى على الأطفال وكشف الإهمال الإداري
-
طالب بإعادة الفرز، مرشح الدائرة الثالثة بالفيوم يطعن على الحصر العددي
-
طلقها زوجها قبل أسبوع، سيدة متوفاة داخل محل تثير الذعر في البدرشين
-
أمطار ورياح بهذه المناطق، تفاصيل حالة الطقس غدًا الإثنين
-
الأحزاب الكبرى تسقط في اختبار الدوائر الملغاة، أرقام كارثية تكشف حجم الخسائر
مقالات ذات صلة
لدعم الابتكار وريادة الأعمال، وزير الاتصالات: افتتاح كريتيفا بالأقصر قريبًا
14 ديسمبر 2025 11:05 م
للتحول لحكومة ذكية، تعزيز القدرات الرقمية للعاملين بالدولة
14 ديسمبر 2025 09:42 م
من الإنتاج إلى المريض، تدريب 10 آلاف متخصص على تتبع الدواء رقميًا
14 ديسمبر 2025 07:46 م
بنك باركليز يتوقع أسعار النفط في 2026، هل تعاود الارتفاع؟
12 ديسمبر 2025 11:18 م
النفط على صفيح ساخن، الإمدادات الوفيرة تتحدى التوترات الجيوسياسية
12 ديسمبر 2025 09:23 م
عضو الفيدرالي يحذر: التضخم لا يزال مرتفعًا والسياسة النقدية متيسرة
12 ديسمبر 2025 07:48 م
الأسواق تتأهب لحكم تاريخي حول الرسوم الجمركية الأمريكية
12 ديسمبر 2025 06:20 م
الغذاء يقود تباطؤ الأسعار، وشعبة المستوردين: التضخم الأحادي يبدأ 2026
12 ديسمبر 2025 05:00 م
أكثر الكلمات انتشاراً