الأربعاء، 25 يونيو 2025

12:29 ص

الجندي المجهول.. كيف خدع محمد عبد المنعم اليهود قبل حرب أكتوبر؟

الكاتب الصحفي الراحل محمد عبد المنعم

الكاتب الصحفي الراحل محمد عبد المنعم

غيّب الموت، اليوم الثلاثاء، الكاتب الصحفي الكبير محمد عبد المنعم، أحد أبرز المحررين العسكريين في تاريخ الصحافة المصرية، بعد صراع مع المرض، تاركا خلفه مسيرة مهنية حافلة امتدت لعقود في بلاط صاحبة الجلالة.

وعُرف الراحل بمشاركته الفاعلة في تغطية الأحداث العسكرية الكبرى، كما كان جزءا من خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت نصر أكتوبر المجيد، إلى جانب توليه مسؤولية الملف العسكري بجريدة "الأهرام" لما يقرب من ثلاثين عاما قبل أن ينتقل إلى رئاسة مجلس إدارة وتحرير مؤسسة "روز اليوسف".

محمد عبد المنعم وخطة الخداع الاستراتيجي

لم يقتصر دور الكاتب الصحفي الراحل محمد عبد المنعم على تغطية الشؤون العسكرية من خلف المكاتب، بل كان جزءا فاعلا من واحدة من أعقد وأدق الخطط الاستراتيجية في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، عندما أسندت إليه مهمة إعلامية حساسة ضمن خطة الخداع الاستراتيجي التي سبقت حرب أكتوبر 1973.

الكاتب الصحفي الراحل محمد عبد المنعم 

بدأت القصة وفقا لما رواه “عبد المنعم” في حوار سابق مع الأهرام بتاريخ 14 مارس 2020، حين أبلغه اللواء حسن الكاتب، المسؤول عن المحررين العسكريين آنذاك، بأنه سيتم تزويده بعدد من الأخبار والتقارير الحصرية لنشرها في جريدة "الأهرام"، دون اطلاع أحد على خلفياتها الحقيقية أو أهدافها، مع إخضاعه بالكامل لقانون الأحكام العسكرية، وهو ما كان يعني أن أي خطأ أو تسريب قد يعرضه لعواقب وخيمة.

موقف محترم مع هيكل

في البداية أبدى عبد المنعم تحفظه، مؤكدا أن مثل هذا الأمر ينبغي أن يكون بعلم رئيس التحرير محمد حسنين هيكل، وبناء على ذلك التقى بالفريق أحمد إسماعيل في وزارة الحربية، والذي أجرى اتصالا مباشرا بالرئيس أنور السادات، ليعود ويبلغه بموافقة القيادة السياسية على إطلاع هيكل على طبيعة المهمة مع التزام السرية التامة داخل الجريدة.

محمد حسنين هيكل

وبناء على توجيهات هيكل، كان عبد المنعم يسلّم الأخبار الواردة من الجهات السيادية إلى "ديسك" الأهرام، ويسهر للفجر حتى صدور الطبعة الثالثة، ليتأكد من عدم حذف أو تعديل أي خبر في النسخ الأخيرة من الجريدة، واستمر هذا الوضع طيلة المرحلة التحضيرية للحرب، دون أن يشعر أحد من زملائه أو القائمين على الجريدة بحقيقة الدور الخطير الذي يؤديه.

وتضمنت هذه الأخبار العديد من المعلومات المضللة التي كان الهدف منها خداع الجانب الإسرائيلي، من بينها أخبار عن سفر مجموعات من ضباط الجيش المصري لأداء عمرة رمضان، وتقارير عن رحلات استجمام للرئيس السادات في الصحراء الغربية، وتصريحات منسوبة للرئيس تفيد بعدم دخول مصر الحرب إلا بعد الحصول على طائرات "فانتوم F-4" الأمريكية.

كيف صدم محمد عبد المنعم مسؤولا إسرائيليا؟

بحسب روايته في حواره مع “الأهرام”، أدرك عبد المنعم بعد انتصار أكتوبر حجم التأثير الكبير لتلك الأخبار على حسابات إسرائيل الحربية، ففي أحد اللقاءات ضمن اللجنة العسكرية المشتركة خلال محادثات السلام - حيث كان يشارك في التغطية الصحفية- فوجئ إيلي زاعيرا رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية خلال حرب أكتوبر، يتقدم نحوه ويسأله إن كان يدرك وقتها أن ما ينشره لم يكن صحيحا، فأجابه عبد المنعم مؤكدا معرفته الكاملة بعدم صحة الأخبار المنشورة.

الكاتب الصحفي الراحل محمد عبد المنعم 

ويضيف عبد المنعم في حواره ساخرا أن إجابته أثارت صدمة زاعيرا وكادت أن تصيبه بـ"ذبحة صدرية"، حيث بنى تقديراته الاستخباراتية على تلك الأخبار حينها، ما ساهم في فشل تقدير الموقف الإسرائيلي ودفع لاحقا إلى عزله ومحاكمته بعد الهزيمة، وعندما سأله عن كيفية دخول مصر الحرب دون الحصول على طائرات الفانتوم كما كان يُشاع، أجهز عليه محمد عبد المنعم بالضربة القاضية وقال: "كنا مستعدين نخوض الحرب ولو بالسكـاكين من أجل استعادة أرضنا وكرامتنا".

قصة "البنطلون الكاكي"

قبل أيام قليلة من اندلاع حرب أكتوبر 1973، كان محمد عبد المنعم يعيش أجواء مشحونة بالتكهنات والاحتياطات الميدانية الدقيقة، في ظل حالة السرية المشددة التي أحاطت باستعدادات الحرب.

في مطلع أكتوبر من ذلك العام، تم استدعاء كافة ضباط الاحتياط، وكان من بينهم عبد المنعم، غير أن اللواء سامي الشيخ، مدير شؤون الضباط آنذاك، أبلغه نصا: "خد بعضك وامشي دلوقتي.. ولو عرفت إن الحرب قامت، إلبس ميرى وتعال فورًا"، ومنذ ذلك اليوم، كان يتنقل إلى مقر "الأهرام" مرتديا قميصا مدنيا مع بنطلون "كاكي" كنوع من الاستعداد لأي طارئ.

وبهدف تعزيز خطة الخداع وعدم لفت انتباه المراسلين العسكريين الأجانب المتواجدين في القاهرة حينها، كُلف “عبد المنعم” من قبل اللواء سامي الشيخ بمواصلة لقاءاته المعتادة مع الصحفيين الأجانب، كي لا يشعروا بأي مظاهر استنفار استثنائي قد تدفعهم لنقل تقارير تثير الشكوك حول التحركات المصرية.

وفي واحدة من المفارقات اللافتة في تلك الفترة، حصل عبد المنعم على موعد لإجراء حوار صحفي مع وزير الدفاع الفريق أحمد إسماعيل، حيث حدّد له مدير مكتب الوزير، المقدم حمدي الجندي -زميل دفعته في الكلية الجوية- موعد اللقاء في الساعة الثانية من ظهر يوم السبت 6 أكتوبر 1973، وعندما وصل عبد المنعم في الموعد المحدد إلى وزارة الحربية، فوجئ بخلو المبنى تماما من الحركة، ولم تمر سوى دقائق حتى علم أن الحرب قد بدأت بالفعل في تلك اللحظة.

search