على أرصفة الإسكندرية.. هنا باع الدجال وهم الشفاء

دجال _ ارشيفية
مصطفى عبدالفضيل
داخل مدينة عريقة كالإسكندرية، حيث يختلط عبق التاريخ بملح البحر، وأصوات الباعة الجائلين بأصوات الموج، وفي قلب المدينة التي رأت كل شيء عبر آلاف السنين، لا يتوقف الغرباء عن بيع الأحلام، بعضهم يبيع تذاكر وهمية إلى الثراء، وآخرون يبيعون ترياقًا خادعًا للمرضى واليائسين.
وبين هؤلاء وقف شخص جاء من القليوبية متخفيًا خلف عباءة "العلاج الروحاني"، لم يكن يتوقع أن يسقط بهذه السرعة، رجل واثق في نبرة صوته، يحترف اقتناص اليائسين ممن أثقلهم الهمّ والمرض بحثًا عن بصيص أمل، يلوّح لهم بما يصفه بالعلاج الروحاني، وينسج خيوط الوهم بخبرة نصّاب محترف، لكن رهانه الذي جاء به إلى الإسكندرية انتهى بضبطه متلبسًا، لتتكشف فصول جديدة من حكايات الخداع المقنّع بعباءة الروحانيات.
البداية.. قدرات خارقة للبيع
المتهم الذي يطلق على نفسه "طبيب روحاني"، لم يكن يعرف ضحاياه عن قرب، وكل ما فعله هو بناء جسر من الثقة الوهمية عبر صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك روّج لنفسه كصاحب قدرات روحانية خارقة؛ قادر على علاج الأمراض المستعصية، وفكّ السحر، وإعادة المفقود، مقابل مبالغ رمزية سرعان ما تحولت إلى آلاف الجنيهات.
تشتعل فصول الحكاية برسالة قصيرة يرسلها إلى الضحية، يعدها فيها بفك السحر الأسود، وشفاء الجسد والروح، واستعادة الزوج الغائب، وكل ما تعجز عنه المستشفيات وصالات الانتظار، وفي المقابل: تحويل بنكي أو حوالة بريدية، ثم مواعيد متفرقة للقاء يحمل معه سرّ الشفاء، أو هكذا يتخيل الضحية.
ومن خلف شاشة هاتفه، كان المتهم يختار ضحاياه بدقة: نساء خائفات على أسرهن، شباب أثقلهم القلق، مرضى فقدوا الأمل في الطب، وكل من يبحث عن بصيص نور في قلب ليلٍ طويل، هكذا كان يبدأ فصل جديد في رواية قديمة كتبتها الحيرة ووقّعتها الحاجة والألم.
الأمن يرصد الخيوط الخفية
لم تغب خيوط تلك الشبكة عن أعين رجال الإدارة العامة لحماية الآداب بقطاع الشرطة المتخصصة، حيث رصدت نشاطه منذ أسابيع، بعد تعدّد البلاغات والشكاوى من مواطنين اكتشفوا أنهم وقعوا فريسة لهذا المخادع.
وبعد تحريات متواصلة كشفت أن الرجل المقيم في محافظة القليوبية، كان يروّج لنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، متخفيًا خلف شعارات العلاج الروحاني والرقية الشرعية.
وفي هدوء مدروس وبعد تقنين الإجراءات، تحركت قوة أمنية إلى دائرة قسم شرطة العطارين بالإسكندرية، حيث كان الرجل هناك ينتظر ضحية جديدة، أو بالأحرى زبون جديد للوهم، لكن بدلاً من أن يسلّم وصفته الروحانية، وجد نفسه محاطًا برجال الشرطة.
القبضة الأمنية لم تكشف فقط شخصًا يُتقن الكلام المعسول، بل عثرت معه أيضًا على أدوات الدجل والشعوذة التي طالما صدّقها البسطاء، والأهم من ذلك: هاتفه المحمول، الذي تحوّل إلى دفتر أسراره؛ حيث عثر بداخله على رسائل، وصور، ومحادثات تؤكد ما لم يعترف به لسانه في البداية.
أسرار تُروى بغرفة التحقيق
داخل غرفة التحقيق، لم يجد المتهم مفرًا من الاعتراف بحقيقة نشاطه، وأقرّ دون مواربة بأنه كان يروّج للوهم مستغلاً حاجات الناس وآلامهم، وأن كل ما يفعله لا يتعدى كونه "شغل دجالين"، كما أن الهاتف المحمول الذي صودر معه كان شاهدًا على جرائمه؛ رسائل، تسجيلات صوتية، صور لأعمال سحر وطلاسم، كلها أدلة دامغة على نشاطه الإجرامي.
النيابة العامة لم تتردد في إصدار قرار بحبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق، مع استمرار جمع الأدلة، والبحث في بلاغات جديدة قد تظهر من ضحايا آخرين.
ضحايا في دوائر الألم
وراء كل قصة نصب، تقف وجوهٌ لم تكتب أسماؤها في محضر الشرطة: قد تكون أمّ أنهكها المرض تدعو الله لشفاء ابنها الوحيد، أو فتاة تبحث عن طوق نجاة من هجر حبيب، أو ربما ربّ أسرة يبحث عن حلّ لعقمٍ طال أمده، هؤلاء لم يكونوا أغبياء، كانوا فقط بسطاء، يؤمنون أن الله قد يرسل لهم معجزة على يد رجل غريب، في لحظات الضعف القصوى، يصبح حتى دجال من القليوبية رسولًا للرجاء.
وهمٌ جميل باهظ الثمن
لماذا يصدّق الناس هذا الوهم؟
علماء الاجتماع يقولون إن الظاهرة ليست جديدة: الإنسان، في لحظة وجعه، يُسلّم عقله لأي يدٍ تمتد له بالعزاء، والخرافة تجد تربتها الخصبة في القلوب التي سئمت أبواب المستشفيات، أو تعبت من انتظار نتيجة التحاليل، لكن الجديد أن ساحة الدجل انتقلت من زوايا ضيقة في حواري القاهرة والإسكندرية، إلى فضاء أوسع وهو الإنترنت، وأصبح الدجال يصل إلى كل بيت من خلال حيلة قديمة تتجدد في ثوب عصري، أدواتها لم تعد مقصورة على الخرزة الزرقاء أو أوراق الطلاسم، بل امتدت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يختلط الحق بالباطل، فيصبح الوهم أقرب مما نتخي، وأكثر تكلفة مما يحتمل الضحايا.
ظاهرة لا تموت بسهولة
لم تكن هذه هي الواقعة الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، فبين الحين والآخر تسقط أسماء جديدة تتاجر بأوجاع الناس تحت شعار العلاج الروحاني، وضحاياهم غالبًا ما يكونون من البسطاء، الذين يصدقون أن البركة قد تأتي من هاتف محمول أو جلسة في غرفة مظلمة.
دجال الإسكندرية سقط، لكن غيره كثيرون يواصلون العمل في صمت، يبيعون أوراقًا مكتوبة بحبرٍ غامض، وزجاجات زيت لا تشفي شيئًا، ويجنون آلاف الجنيهات من وجع الناس، ولا شك أن أجهزة الأمن تتعقّبهم، والقانون سيحاكمهم، لكن حتى ذلك الحين، سيظل هناك ضحايا جدد؛ لأن الوهم لا يُهزَم بسهولة، ولأن الخوف أحيانًا يدفع صاحبه إلى طرق أبواب يعرف أنها كاذبة، فقط ليشعر بالأمل للحظة.

الأكثر قراءة
-
تسريب امتحان الكيمياء للثانوية العامة 2025.. التعليم تكشف الحقيقة
-
تنسيق الثانوية العامة 2025 محافظة البحيرة
-
محافظ سوهاج: إضافة 2,15 مليون فدان لتوفير فرص واعدة للمستثمرين
-
حكم قضائي ضد سائق بتهمة التعدي على فتى في المعادي
-
"النواب" وافق عليه.. اعرف موعد تطبيق قانون الإيجار القديم 2025
-
تداول امتحاني الكيمياء والجغرافيا للثانوية العامة.. و"التعليم" تحقق
-
كل ما تريد معرفته عن عرض مسلسل مملكة الحرير 2025
-
توزيع درجات الكيمياء على الأبواب 2025 للثانوية العامة

أخبار ذات صلة
النيابة تأمر بحبس متهمين بإنهاء حياة سائق توكتوك داخل مقابر بأسيوط
03 يوليو 2025 04:35 م
"عاوزين الترند".. ضبط 3 شباب اعتدوا على فتاة في الشارع بالإسكندرية
03 يوليو 2025 03:38 م
رأسه اصطدم بالقاعدة.. مصرع عاطل سقط داخل الحمام في الوراق
03 يوليو 2025 04:12 م
السيطرة على حريق داخل مخبز بمنشأة القناطر
03 يوليو 2025 04:08 م
“أثناء لجنة امتحان”.. إصابة مراقب ثانوية بأزمة قلبية في القليوبية
03 يوليو 2025 04:01 م
اندلاع حريق داخل مطعم شهير بالتجمع الخامس
03 يوليو 2025 02:06 م
أقوال السائق المتهم في حادث الطريق الدائري بالبساتين (خاص)
03 يوليو 2025 02:02 م
"عشان الكيف".. روح محمود تهون على عمه ونجله في أسيوط
03 يوليو 2025 01:56 م
أكثر الكلمات انتشاراً