
حسام السويفي
الحرية والإرهاب.. عندما تختلط الشعارات برائحة البارود
فرق شاسع بين من يحارب بالكلمات ومن يطلق الطلقات، بين من يواجه بالفكر والقلم، ومن يجاهر بالتحريض والدم. فلا يمكن أن نساوي بين مثقف يختلف معك ويجادلك بالحجة، وبين إرهابي يختلف معك فيغتال حقك في الحياة فالحرية الحقيقية، تلك التي ولدت من رحم المسؤولية، التي تقف دائمًا عند حدود حرية الآخرين وحقوقهم. أما الفوضى، فهي الوجه القبيح الذي يتخفى خلف قناع الحرية لتدمير المجتمعات.
الحرية ليست صكًا مفتوحًا للفوضى، ولا تفويضًا مطلقًا للتآمر على الدولة. بل هي مساحة آمنة للنقاش، وليست منصة لتصدير أجندات الخراب، فالتاريخ القريب والبعيد مليء بشواهد الذين رددوا شعارات الحرية نهارًا، ثم حملوا السلاح أو تعاونوا مع أعداء الوطن ليلًا، بحجة أن "الغاية تبرر الوسيلة".
الحرية ليست ورقة بيضاء لمن يشاء أن يكتب عليها ما يريد، ولا ميدانًا مفتوحًا لكل من يسعى لتصفية حساباته أو تنفيذ أجندات أسياده في الخارج. الحرية الحقيقية هي أن تنتقد لتبني، أن تختلف لتطور، أن تواجه بالكلمة لا بالرصاصة. وما بين الحرية والفوضى، يقف الوطن على حافة دقيقة، إما أن نحميها بالعقل والحكمة، أو نتركها فريسة للفوضى وشركاء الإرهاب.
ومن السهل أن ترفع شعار "حرية التعبير" وتجعله سلاحًا سياسيًا. لكن الأصعب أن تمارسه بصدق ومسؤولية، دون أن تكون أداة في يد قوى خارجية أو تنظيمات سرية. فالحرية الوطنية تبني، تصون، وتطور. أما الفوضى المستوردة، فتزرع الفتن، وتستنسخ حروب الآخرين على أرضك.
لقد حذر الدستور، كما حذرت المواثيق الدولية، من أن حرية الرأي لا تعني حرية التحريض على العنف أو نشر الكراهية، وهذا المبدأ البسيط تجاهلته تيارات وجماعات استغلت انفتاح الدولة على التعددية، لتفتح أبواب الخراب. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، التحالف الخفي بين بعض النشطاء المتماهيين مع أجندات التنظيم الدولي للإخوان، والذين يستخدمون وسائل الإعلام ومنصات التواصل كأدوات للتجنيد والتعبئة ضد الوطن.
الرئاسة أكدت على ضرورة التنوع في الآراء، والاستماع إلى الرأي الآخر، لكنه لا يعني إطلاق العنان للفوضى لتتمدد على استقامتها، فالتنوع الفكري مطلوب، لكن الخيانة ليست وجهة نظر. وهناك فرق بين من ينتقد الأداء الحكومي من أجل الإصلاح، ومن يفتح أبواب السفارات الأجنبية أمام معلومات حساسة، أو ينقل رسائل التحريض إلى منصات دولية.
لقد رأينا كيف تحولت بعض الصفحات على الإنترنت إلى غرف عمليات للفتنة، تنشر الإشاعات وتختلق القصص، وتضخم الأحداث بهدف خلق صورة دولية مضللة عن الدولة المصرية أو أي دولة عربية مستهدفة. هذا النوع من "النشاط" ليس حرية، بل عمل عدائي في ثوب مدني.
لم تكن الإشكالية في النشطاء، أو المعارضين فقط، بل أحيانًا في بعض من يرفعون شعار الوطنية من الصفوف الأولى، خاصة بين الإعلاميين المحسوبين على النظام. حين تتحول الوطنية إلى مزايدة لفظية على الشاشات، وتصبح البرامج مجرد منابر للتطبيل الأجوف، فإن النتيجة عكسية تمامًا، فالمشاهد اليوم أكثر ذكاءً ووعيًا مما يظن هؤلاء. ويعيد التفرقة بين من يحبه لوطنه بصدق، ومن يحبه لمصالحه ومكاسبه الشخصية.
هذه المبالغات، وهذا الخطاب المليء بالشتائم والتخوين العشوائي، يضعف مصداقية الدولة، ويمنح خصومها فرصة ذهبية لتشويه صورتها. فالوطنية الحقيقية لا تحتاج إلى صراخ ولا إلى مسرحيات إعلامية، بل إلى خطاب عقلاني، يحترم عقول الناس ويعتمد على الحقائق لا على العواطف.
الإرهاب الذي نحاربه اليوم لم ينبت فجأة في أرض قاحلة، بل نما في بيئة سمحت للفوضى أن تتسلل تحت شعار الحرية، وهناك من وفر له الغطاء الإعلامي، ومن وفر له التمويل، ومن وفر له الشرعية الأخلاقية عبر خطاب مزدوج، وهذه الجماعات تعرف جيدًا كيف تستغل أجواء الانفتاح السياسي لتجنيد الشباب، وتحويل طاقاتهم من الإبداع والبناء، إلى التدمير والانتحار.
تتطلب محاربة الإرهاب بجدية، أن نغلق كل الثغرات التي يدخل منها، وأهمها الثغرات الفكرية والإعلامية التي يختبئ خلفها فلا يمكن أن نسمح بوجود منابر إعلامية تحرض على العنف تحت حماية حرية التعبير، أو حسابات إلكترونية تبث سمومها ليل نهار دون محاسبة.
اليوم، ساحة المعركة ليست فقط في الجبال أو المدن المدمرة، بل على الشاشات وفي الهواتف المحمولة. وهنا يتم تشكيل العقول والتلاعب بالمشاعر. وهنا تتسرب الرسائل الموجهة من أجهزة مخابرات أجنبية، أو من غرف عمليات لجماعات متطرفة، بألف قناع وقناع. كل "هاشتاج" مدروس، وكل "ترند" له ممول، وكل فيديو مصور بعناية ليحرك غضب الجمهور.
لهذا، لا بد من التفريق بين الناشط الرقمي الذي يقدم رأيًا مختلفًا من منطلق وطني، وبين الممول الذي ينفذ خطة تخريبية مرسومة سلفًا، فالأول قد يكون شريكًا في الإصلاح، أما الثاني فهو شريك في الجريمة.
التحدي الأكبر أمام أي دولة وطنية هو كيف تحافظ على هامش الحرية الذي يحمي كرامة المواطن، وفي نفس الوقت تمنع هذا الهامش من التحول إلى ثغرة أمنية. المعادلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. تحتاج إلى تشريعات صارمة ضد التحريض على العنف والكراهية، وفي نفس الوقت إلى إعلام مسؤول يفتح أبوابه لكل صوت وطني مهما اختلف غي آرائه.
الدولة القوية هي التي تثق في نفسها فلا تخاف من النقد، لكنها أيضًا لا تتساهل مع الخيانة. وهي التي تفتح المجال أمام المعارضة الوطنية الحقيقية، وتغلقه أمام الفوضى الممولة من الخارج.

الأكثر قراءة
-
موعد نزال حمزة شيماييف 2025 والقنوات الناقلة
-
مدبولي يناقش تفعيل لجان حصر المناطق الخاصة بقانون الإيجار القديم
-
طقس السبت.. موعد انكسار الموجة شديدة الحرارة
-
"الكورة مع ماهر": الأهلي يطمئن جماهيره برباعية نارية في فاركو
-
تقاسم المعادن وتجميد الحرب.. ملامح الصفقة المرتقبة بقمة ألاسكا بين بوتين وترامب
-
انطلاق امتحانات الثانوية العامة 2025 الدور الثاني اليوم
-
البؤساء.. رؤية فلسفية تتجاوز الزمن
-
8 عادات ذكية تحافظ على قوة ذاكرتك بعد الأربعين
أكثر الكلمات انتشاراً