الأربعاء، 20 أغسطس 2025

01:24 م

رشدي الدقن
A A

رشدي الدقن يكتب لـ"تليجراف مصر": القصة المدهشة لحياة توفيق الدقن.. كما لم تُروَ من قبل (2)

في مذكراته التي نشرتها دار ريشة للطباعة والنشر في كتاب باسم "توفيق الدقن.. العبقري المظلوم حيا وميتا"، يقول توفيق الدقن بنفسه: حتى سن العشرين لم أكن أعرف شيئاً عن الفن، ولم أكن حتى قد دخلت السينما في حياتي أو اختلطت بفنان.. إذ كنت متفرغاً تماماً للرياضة، حيث كنت ملاكماً مشهوراً ولاعب كرة يشار إليه بالبنان.. إلى أن شاءت الظروف أو لنقل «الصدفة المحضة» أن أصبح بين غمضة عين وانتباهتها ممثلاً.

كنت في ذلك الوقت طالباً بمدرسة المنيا الثانوية، وكنا نجري تدريباتنا الرياضية في نادي الشبان المسلمين هناك، وفي أحد الأيام كنت قد انتهيت من التمرين بالملعب ودخلت بملابس التمرين إلى صالة النادي، فوجدت الفنانة "روحية خالد" تجلس مع مجموعة من أعضاء النادي وهم أعضاء فريق التمثيل، وما أن رأتني داخلاً، حتى أشارت إليّ وصاحت «أهو ده اللي يصلح للدور».

وكان من عادة النادي في ذلك الوقت أن يقيم في كل عام مهرجاناً فنياً كبيراً تقدم خلاله مسرحية، وكانت كل الترتيبات قد أعدت والبروفات قد انتهت على المسرحية المزمع تقديمها، وكان موعد المهرجان في الليلة نفسها.. لكن القدر شاء أن يسقط بطل المسرحية مريضاً بحمى يطلق عليها حمى «الدنج» كانت متفشية آنذاك، فوقع الجميع في حيرة شديدة من يحل محل البطل المريض.. الفنان عبد العزيز خليل والذي أصبح فيما بعد أول مؤسس لنقابة الممثلين وكان أول نقيب لها - أشهر أدواره "المعلم إبراهيم" في فيلم  “فتوات الحسينية”.

الممثل الكبير توفيق الدقن

ولم يكن لديّ أدنى فكرة عما حدث عندما دخلت صالة النادي عصر ذلك اليوم.. ولذلك دهشت دهشة شديدة عندما سمعت جملة الفنانة روحية خالد - التي أعتبرها أستاذتي في فن الإلقاء- وضحك مخرج المسرحية وقال لها: «ده رياضي وليس له في فن التمثيل»، لكنها أخذت على عاتقها مهمة إقناعي وتدريبي على أداء الدور، وفعلاً تمكنت من إقناعي وحفظت الدور في ثلاث ساعات فقط.

وفي المساء، عندما ظهرت على خشبة مسرح سينما «بالاس» بالمنيا فوجئت بعاصفة شديدة من التصفيق، وشعرت لحظتها بشعور غريب جداً، ليس لتصفيق الناس لي، فقد كنت معتاداً على هذا التصفيق وأكثر منه في الملاعب، ولكن لاختلاف نوعية هذا التصفيق فالناس تصفق للاعب في الملعب كحصان يكسب السباق، أما على المسرح فالناس تصفق للممثل على أنه روح، على أنه كيان إنساني، فتصفيق الناس هنا يؤثر في الوجدان.
المهم انتهت الحفلة في تلك الليلة على خير ونجحنا نجاحاً باهراً، ولكن لم أتعلق بالتمثيل حتى انتهت دراستي الثانوية، وانتقلت أسرتي للقاهرة والتحقت بالعمل في مصلحة السكة الحديد، التي كان من أسباب قبولي موظفاً بها أنني كنت لاعب كرة ممتاز .

في عام 1946 بدأ الإعلان عن افتتاح أول معهد للتمثيل، وقالت مجموعة من أصدقائي أمثال سعد أردش وعبدالمنعم مدبولي وإبراهيم سكر ومحمد الطوخي والمرحوم الفنان صلاح سرحان: لنتقدم إلى المعهد.. فقدمت أوراقي معهم في الدفعة الأولى.. ولكن الأستاذ زكي طليمات عميد المعهد كانت له وجهة نظر خاصة في اختيار الطلبة، إذ كان يرغب في تدعيم المعهد بمجموعة معينة من الهواة ممن مارسوا المهنة فعلا.. المهم كانت النتيجة أننا جميعاً رسبنا في امتحان القبول.

ملحوظة على هذا الجزء من المذكرات: "توفيق الدقن" بأخلاق عالية وسمو عن الصغائر.. يتجاهل تماما خلافه مع نجيب الريحاني في أول مرة تقدم فيها إلى المعهد.. فالثابت أن نجيب الريحاني وقتها هو من سخر من الاسم، وقال له «إيه الدقن دي»، فرد عليه فورا «وإيه الريحاني دي» ، وثار الريحاني وقال للجنة "ده جاي يعاكس البنات.. فرحان لي بشعره المسبسب.. وأنا شوفته بيعاكس البنات بنفسي.. ده باين عليه واد لعبي معجب بشعره.. وفاكر التمثيل هلس في هلس، وأقنع الحضور بعدم قبوله وأنه لو بيحب التمثيل سيتقدم إلى المعهد في العام التالي.

الممثل الكبير توفيق الدقن

وظنت اللجنة فعلا أنه متعال وغير جاد وجاء لمعاكسة الفتيات، فرسب في الاختبار.. وفي المرة الثانية رغم أن توفيق الدقن ذهب بعد تلقي تلغراف من زكي طليمات ولم يختبر ودخل المعهد دون أداء الامتحان إلا أنه – زكي طليمات- تعمد السخرية من الاسم مرة أخرى.. وعندما غضب توفيق الدقن قال له: أنا بختبر جديتك وعايزينك معانا في المعهد.. انتهت الملاحظة.
ويكمل توفيق الدقن في مذكراته: وفي العام التالي عاود زملائي تقديم أوراقهم، ولم أقدم أنا، والنتيجة أنهم رسبوا للمرة الثانية. 
وفي العام الثالث قدموا أيضاً وأصررت أنا على عدم تقديم أوراقي، إذ كنت قد حزمت أمري على التفرغ للرياضة تماماً.. كما أنني كنت قد شرعت في إتمام تعليمي العالي، لكن في يوم امتحان القبول فوجئت ببرقية من الأستاذ زكي طليمات يقول فيها «احضر الخامسة مساء بمسرح الأزبكية ومعك 6 صور 6×9» فدهشت لكنني صممت على خوض التجربة، وفي الخامسة مساء كنت بالمسرح، ودخلت على لجنة الامتحان فوراً، وكانت مكونة من الأساتذة: زكي طليمات، يوسف وهبي، جورج أبيض، أحمد علام، حسين رياض، دكتور إبراهيم سلامة، ونجيب الريحاني، ولم أكن قد أعددت شيئاً للامتحان، وعندما وقفت أمام اللجنة سألني الأستاذ زكي عن اسمي فقلت: توفيق الدقن.. فظل يضحك وينكت هو وأعضاء اللجنة على كلمة - الدقن- حوالي ربع ساعة حتى غضبت، وقلت له: «أنت جايبني هنا عشان تهزأني» فاحترم غضبي، وسألني: «أنت قدمت أوراقك أول عام ولم تتقدم بعد ذلك.. لماذا»؟ فقلت له «لأني خلاص مش عاوز تمثيل» فقال لي: «لكن أنا عاوزك» ، وقبلت في المعهد وكنت أول طالب يدخل المعهد دون امتحان، بعد رسوبه في امتحان سابق، وبعد ذلك بدأ اختلاطي بالممثلين، وإحساسي بفن التمثيل كفن عظيم فأخذت أنصرف عن الرياضة وعن كل شيء عداه.
ويتابع الفنان الكبير قائلا: أثناء دراستنا بالمعهد كنا كثيراً ما نقوم بأداء الأدوار الثانوية في الأفلام، وكانت الفنانة الكبيرة فاتن حمامة طالبة معنا في المعهد، وعندما عرض عليها بطولة فيلم «أموال اليتامى» من إنتاج قاسم وجدي وإخراج جمال مدكور ، كان هناك دور صغير جداً لا يتعدى مشهداً واحداً ورشحتني فاتن لأداء الدور، وقبل المخرج.

وفي اليوم المحدد للتصوير ذهبت للاستوديو، وظللت من الساعة العاشرة صباحاً حتى السادسة مساء وأنا أذاكر الدور وأحفظ الحوار، ثم طلبوني للتمثيل ففوجئت بأن الذي سأمثل أمامه هو الفنان الكبير الأستاذ محمود المليجي، الذي كان يمثل دور ابن الباشا الإقطاعي الفاجر، الذي يحاول اغتصاب «أختي» فاتن حمامة.. وكان دوري أن أمسك فأساً وأندفع من وسط أهلي لأدافع عنها، وقمنا بإجراء بروفة على المشهد وبدأ التصوير.. وفي وسط المشهد وجدت الفنان محمود المليجي وقد سلّط عليّ عينيه الناريتين، وفجأة ضاع من رأسي كل الكلام الذي ظللت أحفظه 8 ساعات متواصلة، وتكهرب الجو، وراح المخرج يصرخ ويسب.. 

وهنا قطع الأستاذ محمود المليجي التمثيل بحجة أنه متعب ويريد أن يتناول بعض الطعام في البوفيه.. وبعد قليل حضر إليّ أحد العمال وقال لي: «كلم الأستاذ المليجي» فذهبت وأنا أرتجف، فإذا به يستقبلني بهدوء وحنان وأجلسني معه إلى الطاولة وسألني: هل تناولت طعاماً طوال اليوم؟.. فأجبته بالنفي.. ثم سألني، هل تدخن؟ فهززت رأسي بالإيجاب فأعطاني سيجارة وطلب لي طعاماً وفنجاناً من القهوة، وأحسست في هذه اللحظة أن هذا الفنان يشعر بكل خلجة من خلجات نفسي قبل أن أفصح عنها، ثم طلب مني في هدوء أن نراجع الدور سوياً فراجعناه، فقال لي «أنت كويس خالص أهه.. يالله بينا نمثل المشهد».

وفي الطريق إلى البلاتوه لف ذراعه حول كتفي وقال لي: سأقول لك كلمتين اجعلهما دستور حياتك، أنت تتعلم في المعهد خلال سنوات كيف تفهم وكيف تحس بالدور، وأنا أقولها لك في كلمتين، انظر إلى الدور وافهم ما فيه، فإذا ارتبكت في بعض كلمات الدور أمام الكاميرا فقل غيرها بنفس معناها، ولكن لا تتوقف أبداً أمام الكاميرات.. ومنذ ذلك اليوم أصبحت كلمات الأستاذ المليجي صراطاً أسير عليه في حياتي.

search