السبت، 27 سبتمبر 2025

06:22 ص

اعتراف إسرائيلي يقلب الموازين حول حقيقة "الملاك" أشرف مروان

أشرف مروان

أشرف مروان

تُعد شخصية أشرف مروان واحدة من أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في تاريخ الجاسوسية، بين من يراه بطلًا قوميًا مصريًا خدع إسرائيل في أدق لحظاتها، وبين من يعتبره أهم عميل زرعته دولة معادية في قلب القيادة المصرية.

تقارير عبرية تكشف حقيقة أشرف مروان 

 ونشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، تقريرا يكشف خبايا جديدة تتعلق بدور “الملاك” الاسم الرمزي الذي أطلقه الموساد على أشرف مروان وتفاصيل مثيرة حول كيفية خداعه لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي في لحظة مصيرية قبيل حرب أكتوبر 1973، وتأثيره اللاحق على قرارات القيادة الإسرائيلية خلال الحرب وبعدها.

بينما يواصل جهاز الموساد الدفاع عن "الملاك" ورفض الرواية القائلة بأنه كان عميلًا مزدوجًا في خدمة المخابرات المصرية، تكشف الوثائق والتحليلات الجديدة حجم التلاعب الإسرائيلي بالرواية الرسمية، ومحاولات طمس مسؤوليات داخلية وتحميل "الملاك" وحده عبء الإخفاق الذريع - حسب الصحيفة العبرية.

القصة التالية تُعيد رسم مشهد معقد من الخداع الاستراتيجي، التقديرات الخاطئة، والمصالح المتداخلة بين عدوين لدودين، وتُثير سؤالًا عميقًا: هل كان أشرف مروان بطلًا مصريًا متخفيًا أم عميلًا إسرائيليًا خرج عن السيطرة؟

أرسلته السماء فلقب بـ "الملاك"

 أشرف مروان، الجاسوس الأهم الذي شغّلته إسرائيل في مصر منذ عام 1970، كانت لديه عدة أسماء رمزية داخل الموساد لتضليل الاستخبارات المصرية، ومنها (حوتل، أرجواني، نبوخذنصر)، لكن داخل الموساد عُرف ببساطة بـ"الملاك"، كونه عميلًا مثاليًا، حيث قال عنه مسؤول كبير سابق في الموساد: “كأنه نزل من السماء مباشرة إلى الموساد”، حسب تقرير نشرته يدوعوت أحرونوت الإسرائيلية.

وأشار مسؤول الموساد، إلى أن “الملاك”، مد إسرائيل بكمية هائلة من الوثائق السرية والمعلومات التي وفّرها من قلب القيادة المصرية وعند التحقق منها تجاوزت معظم تقاريره كل اختبار.

بعد 50 عامًا من الحرب، وخلال حفل خاص في ساحة مقر الموساد، وصفه رئيس الموساد دافيد برنيا بـ"عميلٍ رائع"، وقال: “كان لدينا مصادر بشرية ممتازة، وأهمها كان “الملاك”، رافضًا الادعاءات التي ظهرت مؤخرا بأن "الملاك" كان في الحقيقة عميلًا مزدوجًا.

في بداية سبتمبر 1973، بلغت ثقة رئيس الموساد آنذاك تسفي زامير، بأشرف مروان ذروتها، والذي وصفه في مذكراته: "وجود مروان في اجتماعات السادات مع الجنرالات، جعلني أشعر وكأنني حاضر في غرفة الاجتماعات فعليًا".

منذ بداية 1973 بدأ "الملاك" يرسل تقارير عن حرب وشيكة، أحيانًا بتواريخ محددة، ثم عاد وقال إنها تأجلت؛ ثم قال إن هناك تاريخًا جديدًا؛ وأحيانًا قال إن السادات مصرّ على الحرب؛ وأحيانًا بدا كأنه يتحدث بشكل مبهم لا طائل منه.

كيف خدع أشرف مروان إسرائيل؟

خداع مروان لإسرائيل، حسب الصحيفة العبرية استنادا للوثائق، أنه في بداية سبتمبر، قدّم تقريرًا عن اجتماع بين السادات وحافظ الأسد في دمشق، وقال إن الحرب لن تكون قبل نهاية العام ثم أضاف تقديره الشخصي: لا داعي لأخذ تصريحات السادات عن الحرب على محمل الجد، لأنه يريد البقاء في منصبه ولا ينوي الحرب فعليًا، وهنا تنفس الإسرائيليون الصعداء، لديهم مهلة للاستعداد، لكن ما لم يعرفوه هو أن هذه المرة، "الملاك" كان يكذب.

أشارت يديعوت أحرونوت إلى أن كذبة “الملاك” ساهمت بشكل مباشر في الفشل الإسرائيلي، الذي أودى بحياة نحو 2400 جندي، وخلّف شرخًا غيّر وجه إسرائيل إلى الأبد، حيث توضح أن مروان كان يعرف أن السادات والأسد لن ينتظرا حتى نهاية العام، بل أنهما حددا تاريخًا، 6 أكتوبر 1973، يوم الغفران.

في الشهر التالي، شارك مروان في اجتماعات عليا مع القيادة المصرية وكبار القادة العرب، لوضع اللمسات الأخيرة على خطة الهجوم، لكنه لم يُخبر الموساد بشيء.

وبسبب ثقته، تبنّت إسرائيل التقدير بعدم وجود خطر، وفي 24 سبتمبر، أبلغ زامير في اجتماع خاص هيئة الأركان بأن الحرب "غير متوقعة قريبًا"، ولا يتوقع نشوبها خلال السنة الحالية، في حين مصادر أخرى بدأت بإرسال معلومات مقلقة عن قرب اندلاع الحرب، لكن هذه المعلومات لم تُمرر لرئيسة الحكومة ووزير الدفاع، لأن "الملاك" قام بنفيها.

اللواء شلومو غازيت، الذي أصبح لاحقًا رئيس الاستخبارات العسكرية، صرح بأن "ما حدث هو أن الحكومة وقادة الأمن اتخذوا قرارًا غير معلن، أنه إذا لم تأتِ الإنذار من أشرف مروان، فلن نتحرك.

وتابع: مروان زُرع في عمق الاستخبارات الإسرائيلية، جند رئيس الموساد زامير كأداة، وضلله كيفما شاء، لقد كان العنصر المحوري في خطة الخداع المصرية.

منتصف ليلة قبل الحرب

وحسب صحيفة يديعوت، في الوقت البدل ضائع - منتصف ليلة ما قبل الحرب –  خلال لقائه الشهير مع زامير في لندن، أكد مروان أن مصر ستشن هجومها على قوات الاحتلال في سيناء غدا السادس من أكتوبر في السادسة مساء.

إسرائيل تحتاج لـ48 ساعة على الأقل لتحريك الاحتياط، وفي هذه الأثناء، كانت التحضيرات المصرية لعملية "الأبراج العالية" قد تقدّمت.

وتوضح التقارير العبرية الأخيرة أن مروان تمكن من خداع إسرائيل بأن حذر الموساد عدة مرات من حرب وشيكة منذ يونيو 1972، جميعها كانت كاذبة باستثناء الأخيرة في الليلة التي سبقت الهجوم.

كيف خدعت الاستخبارات المصرية إسرائيل بـ "الملاك"؟

ولفتت الصحيفة إلى أن الاستخبارات المصرية استهدفت من تحذيرات "الملاك"  إلى إنهاك إسرائيل،  فبعد أن تصرخ المنظومة مرات عديدة "ذئب! ذئب!" ولا يأتي الذئب، فعندما يأتي حقًا لن يروه، وهذا ما حدث فعلًا.

بالإضافة إلى، مراقبة رد الفعل الإسرائيلي عند الاتُستَنفار، كم من الوقت تحتاج لترد؟ لتستدعي الاحتياط؟ لنقل القوات جنوبًا؟ كل هذه معلومات حاسمة بالنسبة لمصر، الذين أدركوا أنهم بحاجة لمفاجأة مدتها 48 ساعة في الوقت الحقيقي.

"الملاك" حذر الاستخبارات الإسرائيلية للمرة الأولى في 21 يونيو 1972، أن السادات يريد شن حرب قبل مارس 1973، وفي الأشهر التالية، واصل "الملاك" إرسال تحذيرات، أشار إلى أن الهجوم سيكون في 31 أكتوبر 1972، ثم قال إنه سيكون في نهاية ديسمبر، ثم أشار إلى احتمال حدوثه في فبراير 1973.

مصر أدركت أن أشرف مروان يُعتبَر مصدرًا موثوقًا ومهمًا من وجهة نظر إسرائيل، لكن لا يكفي لوحده، لذا بدأوا بنشر معلومات داخل الجيش المصري بأن الحرب ستندلع في ربيع 1973، وهم يعلمون أن هذه المعلومات ستصل إلى إسرائيل وهو ما حدث بالفعل.


"الملاك" أخبر الموساد بأن سنة 1973 ستكون سنة الحرب، وصدق في ذلك، لكن في الوقت نفسه، يمكن اعتبار هذا إثباتًا على أنه كان عميلًا مخادعًا يوزع تحذيرات زائفة ليغطي على موعد الهجوم الحقيقي.

دخلت القوات الإسرائيلية في حالة تأهب عسكرية سميت "أزرق أبيض"، بدأت في مايو واستمرت حتى أغسطس، تم استدعاء الاحتياط، وشراء معدات باهظة، وأعد سلاح الجو طائرات مجهزة، كلف هذا خزينة الدولة نحو 60 مليون ليرة، وهو مبلغ ضخم آنذاك، وهذه التجربة ستؤثر لاحقًا على قرار عدم استدعاء الاحتياط في أكتوبر.

في نهاية يوليو، قال مروان إنه متأكد بأنه لن تكون هناك حرب حتى نهاية العام، وربما لا تكون أبدًا خلال فترة حكم السادات، هذا التقييم أدى إلى رفع حالة التأهب في أغسطس، ومنذ تلك اللحظة، وحتى ليلة اندلاع الحرب، لم يقدم الملاك أي تحذير جديد.

مروان أخبر إسرائيل بتوقيت الحرب

في 4 أكتوبر 1973، الساعة 9:30 مساءً، اتصل "الملاك" بطلب لقاء مع زامير في لندن، قال إنه لا يستطيع الحديث عبر الهاتف، وذكر كلمة السر: “كيمياويات”إشارة إلى وجود إنذار، لكنه لم يستخدم كلمة "بوتاسيوم" الكود الدال على إنذار حرب فوري.

رئيس الموساد زامير طار إلى لندن، وكان ما زال يستبعد أن حربًا وشيكة ستقع، حتى بعد أن قال له مروان إن الحرب ستندلع غدًا، ظل زامير يسأله لماذا وماذا يريدون تحقيقه؟ مروان رد: "لا منطق، أنا الوحيد الذي يعترض، وقد يُقال عني".

حين سأل زامير متى ستبدأ الحرب، أجاب مروان: “في الرابعة عصرًا أو قبيل الغروب”، لكن مصطلح "قبيل الغروب" بدا غير احترافي في خطة هجوم بهذا الحجم، الاجتماع انتهى الساعة الثانية صباحًا بتوقيت لندن، أي الثالثة فجرًا في إسرائيل، أي قبل 11 ساعة من بدء الهجوم.

طمأنة السادات

زامير ظل مترددًا، وقال لمشغّله: “ماذا لو أبلغت عن حرب ولم يحدث شيء؟ سيقيلونني”، فنجحت مهمة "الملاك": أربك إسرائيل، وضمن بقاءه كأهم عميل لمهام مستقبلية، ويبدو أن للاجتماع هدفًا آخر: طمأنة السادات بأن إسرائيل لا تعلم بالخطة، والذي كان قلقًا. 

شلومو غازيت، الذي تولّى رئاسة "أمان" بعد الحرب، قال في حديث أُتيح نشره بعد وفاته: "مروان زُرع في عمق الاستخبارات الإسرائيلية، جند زُفي زمير كأداة، خدعه كما شاء، وكان في الحقيقة القطعة المركزية في خطة الخداع المصرية. 

في الساعة 13:55 ظهر يوم 6 أكتوبر، اندلعت الحرب، ووفقًا لخطة السادات، على مروان تحقيق هدفه الثاني، إنهاء الحرب في أسرع وقت وبأفضل الشروط الممكنة لمصر.

الملاك لم يساعد إسرائيل خلال الحرب بمعلومات استخباراتية حرجة، مثل تلك التي قدمها "جوليات" _ ضابط مصري متقاعد عمل كعميل لإسرائيل بتناقل الأخبار من أندية الضباط ولديه جهاز لاسلكي _ في 12 أكتوبر عن هجوم فرقتين مصريتين نحو عمق سيناء.

ولفتت الصحيفة إلى أنه في 19 أكتوبر، بينما كانت المعارك لا تزال في أوجها لكن إسرائيل بدأت تستعيد زمام المبادرة، استدعى مروان زمير مرة أخرى، وهذه المرة إلى باريس.

مروان أرهب إسرائيل

بدأ اللقاء بسلسلة احتجاجات من "الملاك": أظهر خيبة أمل من أن إسرائيل لم تأخذ تحذيراته "الواضحة" على محمل الجد، وأعرب عن إحباطه من أنه رغم تقديمه لكل المعلومات، فوجئت إسرائيل بالحرب، زمير، على الأقل أمام مروان، تعاطف مع كلامه: كرئيس الموساد، أدى واجبه وأوصل التحذير، ومن فشل هم باقي الجهات.

وبعد أن أدرك مروان أن زمير يشاطره نفس التفكير، حاول "الملاك"، في مهمة من السادات، إنهاء الحرب بسرعة من خلال تقديم معلومات مروعة: لدى مصر 400 صاروخ سكاد موجهة نحو تل أبيب، والسادات يخطط لحرب طويلة الأمد.

وادعى أن السادات لا يخشى من احتمال وصول القوات الإسرائيلية حتى دلتا النيل: "إذا حدث ذلك، فخلف كل شجرة سيقف جندي مصري، والدلتا ستصبح مقبرة للجيش الإسرائيلي".

السادات لا يحتاج إلى وقف إطلاق النار، وعلى إسرائيل أن تختار بين خيارين: "إما تدمير كامل للجيش المصري، أو اغتيال السادات".

مروان كان يعلم أن كل هذا كذب، والسادات كان يأمل، وفقًا لخطة "الأبراج العالية"، في الصمود القليل ما بعد القناة، ثم إنقاذه باتفاق لوقف إطلاق النار قبل سحق القوات المصرية.

عاد زمير إلى البلاد والتقى برئيسة الحكومة جولدا مئير في اليوم التالي، وكانت للمعلومات التي قدمها "الملاك" تأثير كبير على اتخاذ القرار في قمة المؤسسة الأمنية.

موشيه ديان، وزير الدفاع، قال فورًا إنه من غير المعقول أن لدى مصر 400 صاروخ سكاد، إذ كانت المعلومات الإسرائيلية تشير إلى وجود حوالي 20 فقط، وبعضها ربما غير صالح للعمل، وفي النهاية، تبيّن أن المعلومات الأصلية كانت دقيقة، وقصة الصواريخ كانت خدعة.

ومع ذلك، قرر ديان إلغاء هجوم إسرائيلي كان مُخططًا له للسيطرة على بور فؤاد شمال القناة، كما استُخدم هذا "التحذير" كأساس لتقديرات مفادها أن إسرائيل لن تتحمل حرب استنزاف طويلة، ويجب التوصل إلى وقف إطلاق نار سريع.

في 25 أكتوبر، رغم معارضة داخل الجيش الإسرائيلي، دخل اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ونجح "الملاك" مرة أخرى.

كيف خدع الملاك إسرائيل

ومن العجيب أنه لم يسأل أحد في الموساد نفسه: كيف لرجل قريب جدًا من السادات أن يسافر خلال الحرب إلى أوروبا، ويكرّس وقته للقاء رئيس الموساد؟.

استمرت عملية تشغيل "الملاك" حتى حوالي عام 1997، لكن مع مرور الوقت تضاءلت أهميته، لا سيما منذ اغتيال السادات عام 1981 خلال العرض العسكري في 6 أكتوبر.

search