بمساهمة الأهلي والزمالك.. كيف جسدت الرياضة عمق العلاقة التاريخية بين مصر وفلسطين؟

الزمالك يزور فلسطين
شهدت الرياضة الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي، انطلاقتها الحقيقية وسط ظروف قاسية تحت الانتداب البريطاني، إذ أسست الجمعيات الشبابية أندية رياضية حملت رسالة وطنية تهدف إلى تعزيز الانتماء والمقاومة.
تحولت الأندية الفلسطينية إلى رمز للصمود والمقاومة، وأصبح كل فوز لفريق فلسطيني انتصارًا سياسيًا يعبر عن رفض الاحتلال ومشاريعه الصهيونية.
في تلك الفترة كانت مصر قد سبقت غيرها من الدول العربية بتأسيس الاتحاد المصري لكرة القدم عام 1921، ومع تنامي الحركة الرياضية في فلسطين، نشأت علاقة قوية بين البلدين، تُرجمت إلى زيارات متبادلة بين الفرق المصرية والفلسطينية، التي تحولت مبارياتها إلى مهرجانات وطنية ترفع فيها الأعلام المصرية والفلسطينية جنبًا إلى جنب.
لم تكن تلك اللقاءات مجرد منافسات، بل منابر وطنية للتعبير عن الرفض للاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني.
ولعبت الصحافة المصرية دورًا مؤثرًا في دعم الرياضة الفلسطينية وتسليط الضوء على معاناتها، ومع اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى (1936–1939)، تراجع النشاط الرياضي بفعل القمع البريطاني، لكن مصر ظلت الداعم الرئيسي، إذ استقبلت الرياضيين الفلسطينيين ووفرت لهم بيئة لمواصلة نشاطهم.
ما قبل النكبة
بحلول أواخر الأربعينيات، وقبل وقوع النكبة الفلسطينة مباشرة، وقفت المنتخبات المصرية والأندية الكبرى إلى جانب الرياضيين الفلسطينيين، ودعمتهم ماديًا ومعنويًا في ظل تصاعد الأخطار المحدقة بهم.
ومنذ عام 1943 بدأت الأندية والاتحادات العربية في تقليص علاقاتها الرياضية مع الجانب اليهودي في فلسطين.
فبعد أن كان من المقرر إقامة مباريات دولية في السباحة بين مصر ولبنان وفلسطين في حيفا، انسحب السباحون المصريون واللبنانيون واتفقوا على إقامة المنافسات بينهما فقط في بيروت، ليُلغى الحدث في حيفا نهائيًا.
كانت العلاقات الرياضية العربية مع فلسطين قبل النكبة نشطة ومتعددة؛ ففي عام 1938 التقى منتخب الجامعة المصرية بفريق شباب العرب، كما خاضت فرق الجمعيات المسيحية بالقاهرة والقدس مباريات متبادلة، وشهدت حلبات الملاكمة مواجهات بين أبطال مصر وفلسطين وسوريا والعراق، وخصصت عائداتها لدعم صندوق الأمة الفلسطيني.
وفي عام 1943، بدأت الأندية العربية الفلسطينية بالانسحاب من اتحاد كرة القدم الذي كان يهيمن عليه اليهود، ما دفع إلى تشكيل اتحادات محلية.

وفي سبتمبر 1944، أُعيد تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربي بمشاركة 35 نادياً، وبدأ بتوثيق العلاقات مع الاتحادات الرياضية العربية، كما استعان بمدربين مصريين لتطوير كرة القدم والسلة، ونظم مباريات مع الفرق المصرية.
أما في الملاكمة، فقد شهدت السنوات 1943–1944 نشاطاً لافتاً، إذ جرت لقاءات متكررة بين أبطال فلسطين ومصر في القاهرة والإسكندرية.
"سنسافر يا باشا"
زار النادي الأهلي فلسطين بين 26 أغسطس و7 سبتمبر عام 1943 تحت اسم "نجوم القاهرة"، لأن الرحلة كانت مخالفة لقرار الاتحاد المصري لكرة القدم بمنع الفرق من السفر للخارج ذلك العام.
وتقدّم الأهلي المصري بطلب رسمي إلى محمد حيدر باشا، رئيس الاتحاد المصري لكرة القدم ورئيس نادي المختلط (الزمالك) آنذاك، للحصول على موافقة للسفر إلى فلسطين، من أجل لعب مباريات ودعم الثورة الفلسطينية المشتعلة ضد الانتداب البريطاني والعصابات الصهيونية التي كانت تُمهّد لإقامة دولة إسرائيل.
قوبل الطلب بالرفض الشديد من حيدر باشا، بناءً على أوامر من الملك فاروق والسلطات البريطانية التي كانت تخشى أن يؤدي سفر الأهلي إلى تأجيج المشاعر الوطنية في مصر وفلسطين، فتم التحفّظ على جوازات سفر اللاعبين لمنعهم من المغادرة.
لكن قائد الأهلي مختار التتش رفض الانصياع للأوامر، وأعلن تصميمه على السفر، قائلاً: "سنسافر يا باشا".

وبمساعدة فؤاد سراج الدين وزير الداخلية آنذاك، وبدعم من النحاس باشا زعيم الأمة، حصل الفريق على جوازات سفر جديدة وسافر إلى فلسطين تحت اسم "فريق نجوم القاهرة" دون موافقة الاتحاد، بحضور بعض لاعبي الزمالك والترسانة.
استقبل الشعب الفلسطيني الفريق استقبال الأبطال، وحظي بتكريم كبير، ورفع اللاعبون على الأعناق في كل مدينة زاروها، وزار “نجوم القاهرة” مقر جريدة فلسطين في القدس، ووجّهوا شكرهم للشعب الفلسطيني على الحفاوة الكبيرة.
وخاض الفريق 5 مباريات، واستمرت الرحلة 23 يومًا بدلاً من أسبوع واحد فقط، بعدما تحولت إلى تظاهرة قومية ضد الاحتلال.
هزيمة تاريخية
أثار ذلك غضب الملك فاروق والإنجليز، الذين اعتقدوا أن حيدر باشا سمح بالسفر، فقام الأخير بإصدار قرار بتجميد نشاط النادي الأهلي بالكامل وإيقاف جميع لاعبيه لمدة قاربت العام، وشمل القرار أسماء بارزة مثل مختار التتش، أحمد مكاوي، الصواف وأمين شعير.
خلال فترة الإيقاف، خرجت تظاهرات من النادي الأهلي ضد الملك والاحتلال البريطاني مطالبة بعودة النشاط، كما دعمتها شخصيات عامة وفنية أبرزها أم كلثوم التي أحيت حفلاً داخل النادي تضامنًا معه.
وبعد ضغوط سياسية من حكومة الوفد، اضطر الملك إلى رفع الإيقاف، لكن حيدر باشا اشترط أن يقدّم الأهلي اعتذارًا رسميًا بتوقيع التتش.
رفض التتش هذا الشرط، وكتب رسالته الشهيرة إلى حيدر باشا، قائلاً: "إذا كان العمل الوطني يتطلّب الاعتذار، فأنا لا يشرفني أن أكون لاعب كرة في اتحاد أنت رئيسه".
أشعلت الرسالة غضب الجماهير التي خرجت في تظاهرات إلى قصر عابدين، ما أجبر الملك على رفع الإيقاف فورًا.
وبعد أسبوع واحد فقط من استئناف النشاط، قرر الاتحاد إقامة نهائي كأس مصر المؤجل بين الأهلي والمختلط، لعب الأهلي بفريق من الناشئين بعد عام كامل من التجميد، فخسر المباراة 6–0 أمام فريق فاروق، وسط حضور الملك نفسه.

وفي العام التالي، عاد الأهلي بقوته، والتقى نادي فاروق مجددًا في نهائي الكأس السلطانية عام 1944، ليفوز 4-0.
بيليه فلسطين
استمرت العلاقة الرياضية المصرية الفلسطينية طوال عقود، إذ لعب العديد من اللاعبين الفلسطينين بالدوري المصري، حيث لعب مروان كنفاني الحارس الذي دافع عن عرين الأهلي في ستينيات القرن الماضي، والمدافع التاريخي فؤاد أبو غيدة.
في ستينيات القرن الماضي تعاقد الزمالك مع الشقيقين حسام وسميح السمري ضمن جيل حمادة إمام، وكان حسام أبرزَهما في مركز الجناح الأيمن إلى جانب فاروق السيد.
كما ضم النادي، الفلسطيني الموهوب عابد بيليه، أحد ناشئي الزمالك آنذاك، الذي اشتهر بمهاراته العالية وتشبيهه بأسطورة البرازيل.
وفي السبعينيات انضم الحارس الفلسطيني محمد الظني قادمًا من نادي البلاستيك، ليواصل الزمالك مسيرته في دعم المواهب الفلسطينية.
وفي التسعينات، كان مصطفى نجم لاعب الزمالك أحد رموز جيل التسعينيات في القلعة البيضاء، وفي الألفية الجديدة لعب العديد من اللاعبين في الدوري المصري، على سبيل المثال رمزي صالح ومحمد سمارة وعماد أيوب ومحمود السلمي، خالد النبريص ومحمد بلح، محمود وادي، وسام أبو علي وعمر فرج، ويتواجد في الوقت الحالي، عدي الدباغ وآدم كايد بصفوف الزمالك.
زيارة الزمالك لفلسطين
في عام 2000، زار الزمالك قطاع غزة لمواجهة منتخب فلسطين في مباراة ودية تاريخية، جاءت بمناسبة افتتاح استاد غزة الدولي.
شهد اللقاء أجواءً احتفالية كبيرة، بقيادة نجومه عبد الحليم علي وخالد الغندور وعبد الحميد بسيوني، وسجل عبد الحليم علي وعبد الحميد بسيوني هدفي الأبيض، فيما سجل لؤي حسني هدف تقليص الفارق.

انتفاضة 7 أكتوبر
دعم الأهلي والزمالك قطبي الكرة المصرية الانتفاضة الفلسطينية في 7 أكتوبر 2023، كما كانت تهتف الجماهير في كل مباراة حاملة الأعلام الفلسطينية.
وكشف سعد شلبي، المدير التنفيذي للنادي الأهلي، عن إطلاق قافلة مساعدات إلى قطاع غزة جاء تنفيذًا لقرار مجلس إدارة النادي عقب اندلاع الحرب، تعبيرًا عن تضامن القلعة الحمراء مع الشعب الفلسطيني.
وأوضح شلبي أن المجلس اتخذ عدة خطوات لدعم الأشقاء في فلسطين، من بينها تخصيص إيرادات مباراة الأهلي أمام سيمبا التنزاني في إياب بطولة الدوري الإفريقي لصالح المتضررين في غزة، مؤكدًا أن كامل العائد المالي خُصص لتجهيز القافلة الإنسانية التي تم إرسالها لدعم الأهالي.
وفي مبادرة مماثلة، عبّر نادي الزمالك عن تضامنه مع فلسطين من خلال تغيير الصورة الرئيسية لصفحته الرسمية على "فيسبوك"، مضيفًا علم فلسطين ودعم النادي إنسانيًا في أزمته.

من مخيمات النازحين
وفي يناير 2024، أعلن الأهلي عن تقديم لاعبه الفلسطيني الجديد وسام أبو علي من قلب غزة، وجاء الإعلان من خلال الصحفي الفلسطيني أنس النجار، الذي افتتح الفيديو قائلاً: “الحياة لم ولن تتوقف، من قلب غزة الأبية نتحدث إليكم”.
وخلال كلمته، وجّه النجار رسالة مؤثرة عبّر فيها عن فخره بانضمام وسام أبو علي للأهلي، قائلاً: "الفلسطيني وسام أبو علي يرتدي قميص نادي القرن، صاحب المكانة الكبيرة في قلوبنا، نتمنى أن يكون خير ممثل لنا، وأن يكون إضافة قوية للنادي الأهلي العريق".

واختتم النجار رسالته بتحية من أرض فلسطين، قائلاً: “من أرض فلسطين الحرة، إلى فخر الأمة، النادي الأهلي المصري، كل التحية”.
في حب الأهلي
وفي مشهد يجسد عمق الارتباط العاطفي بين الجماهير الفلسطينية والأهلي، احتفل الشاب الفلسطيني خليل أبو إلياس بوقف إطلاق النار في غزة بطريقة استثنائية، إذ اختار أن يعبّر عن فرحته على أنغام وأهازيج القلعة الحمراء، طالبًا من أصدقائه جدول مباريات الفريق لمتابعته بعد الهدنة.
وقال أبو إلياس في حديثه لموقع "تليجراف مصر" إن احتفاله كان نابعًا من انتماء قديم للنادي الأهلي، مضيفًا: "أنا أهلاوي صميم منذ عام 2006، أعيش على حب الأهلي، وعلاقتي به تتجاوز الوصف، فهي ارتباط وجداني لا يُقاس بالكلمات، حتى أنني كتبت عنه شعرًا".
وكشف أبو إلياس أنه شارك مع أحد أصدقائه في إدارة الملف الجماهيري للأهلي في غزة، موضحًا أن النادي يمتلك أكبر قاعدة جماهيرية في القطاع، قائلاً: “كنا من أوائل من يهتفون باسم الأهلي في كل مناسبة، فمحبة الأهلي في غزة لا حدود لها”.
وفي مشهد آخر من غزة، نشر الصحفي الفلسطيني أنس النجار مقطع الفيديو الذي جمع بين المصور الفلسطيني الأهلاوي محمد الدلو ونجله جهاد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والذي حظي بتفاعل واسع.
ورد محمد مجدي أفشة برسالة خاصة إلى أنس النجار والطفل جهاد، عبر قناة الأهلي قائلا: "يا أنس، إزيك يا صديقي؟ أنا مبسوط جدًا إني هشوفك قريب إن شاء الله في مصر، سلّم لي على جهاد، وقوله إن أفشة مستنيه، وهتنور مصر بوجودك، أنت مدعو لزيارة النادي الأهلي، وقميصي جاهز ليك، وإن شاء الله أشوفك قريب وتنور بلدك التانية مصر".
عبّر المصور الفلسطيني محمد جهاد الدلو عن سعادته الغامرة بعد تلقيه مكالمة من نجم الأهلي محمد مجدي "أفشة"، مؤكدًا أن تلك اللحظة ستظل محفورة في ذاكرته.

وقال جهاد في حديثه لـ"تليجراف مصر": “سعيد جدًا بمكالمة أفشة، وإن شاء الله تسير الأمور على خير لنتمكن من زيارة مصر والنادي الأهلي، خاصة أننا عشنا فترة صعبة ومحاصَرة لعامين”.
وأضاف “أحضرت لابني المولود حديثًا، جهاد، قميص الأهلي كهدية بسيطة، لأنه وُلد في زمن الحرب حيث لا توجد ألعاب أو وسائل ترفيه”.
وأتم: “ابني يشبه أفشة تمامًا، لاحظت ذلك حين ارتدى قميص الأهلي، وقد تفاعل الجمهور مع الفيديو بشكل واسع، أتمنى أن يكون ابني مثله، فهذا حلم العمر”.

الأكثر قراءة
-
رفض استكمال الرحلة.. ضبط سائق تجاوز في حق سيدة بالأقصر
-
ولي أمر يتعدى على مسؤولي مدرسة في أسيوط.. كيف تحركت نقابة المعلمين؟
-
اهبطوا مصر
-
مصادر: استشهاد الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي
-
بعد استشهاده.. من هو الصحفي الفلسطيني صالح الجعفراوي؟
-
أزمة اختيار القيادات المحلية.. معايير تائهة في دفاتر الحكومة
-
لماذا يبدأ ترامب جولته بـ"الكنيست" قبل شرم الشيخ؟.. محللون يكشفون خطة واشنطن
-
بين إسرائيل وعائلة درموش.. من قتل صالح الجعفراوي؟

أخبار ذات صلة
صدمة قارية وجنسيات مزدوجة.. مشاهد رياضية "لا تُنسى" بين مصر وأمريكا
13 أكتوبر 2025 02:37 م
3 أدباء كرمتهم مصر بـ"قلادة النيل"
13 أكتوبر 2025 01:39 م
من السادات ومانديلا لمجدي يعقوب.. هؤلاء حصلوا على قلادة النيل قبل ترامب
13 أكتوبر 2025 10:24 ص
من حرب لاتفاق سلام.. لماذا غيّر ترامب دوافعه تجاه غزة؟
12 أكتوبر 2025 09:23 م
أكثر الكلمات انتشاراً