السبت، 25 أكتوبر 2025

08:17 ص

الباقة لا تزال في جيبي

وقف منتصبًا كأنّ الانتصاب لم يُدركه من قبل، تحفّز وتحيّز وتجهّز للانقضاض على عدوّه، عبّأ رأسه بمقذوفاتٍ مشوَّهات، ونزل إلى خندقه، يتربّص بكلِ مارٍّ يتلو تلاوته، أو يسرد سرديّته، أو يُفيد إفادته. لم يتردد لحظةً واحدة في قنصِ أي مختلفٍ عن قناعته، بل تسلّح بالباقة التي لا تزال في جيبه.

ينتصب هذا على حدود فكره، يتسلّح بلسانٍ مسموم، ويحشد كلَّ طاقته لرمي الناس سبًّا وقذفًا وتشهيرًا، وآراء تُلقى كالسياط. لا يحمل علمًا ولا خُلقًا، ويُجاهر بما يظنه كأنّه ذِكرٌ أُنزل عليه سرًّا.

عادةً ما يحاول ذاك المنتصب تقديم ذاته وكيلاً عن الله؛ حمل من الفوقيّة سفاحًا، فأنجب استحقاقًا لا أب له ولا نسب، فأخذ يستعرض عُقده الدفينة استعراضًا بائسًا، وينفِّس عن عجزٍ متراكم، ويتزيّن بوشاح النصيحة ولم يرد منها إلا الفضيحة. سلك مسلك القاضي والجلاد، ويقيس الناس بمقاييس لا أصل لها إلا في ضيق صدره وضَعف أُفقه.

لا يعرف هذا المتسلح بالباقة التي لا تزال في جيبه للمعرفة طريقًا، ولا للأدب مقامًا. يختبئ في خندقه خلف شاشةٍ لا يدفع فيها شيئًا سوى بضعة ميجابايت من باقته، كرصاصٍ يُسكنه صدور الناس طالما ابتعدوا عن أفكاره أمتارًا قليلة.

هو كغيره من أقرانه، إن رأوا صمتًا تأوّلوه، وإن لمحوا عابدًا لا يُصلي فروضهم رجموه، وإن رأوا نورًا لا يشبه عتمتهم حجبوه. لا يملكون إلا وجهًا عابسًا ولسانًا فاجرًا، وضميرًا فاسدًا اعتنقوا شريعته وقدسوه.

يظنون - وكلُّ الظن إثم- أنهم أوصياء على الناس، يعرفون كل المعرفة، ويدركون كل الإدراك، يملكون براءة اختراع الحقيقة، ولا صحيح إلا ما سكن عقولهم، ولا إيمان سوى ما يعتقدون ويعتنقون. في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا، ولا ترياق له إلا بسلب الناس أرواحهم وحريّتهم وملاحقتهم بالجلد والفتك والتكسير والتشهير.

المنتصب على حدود المحدود من فكره يُعاني من سرعة قذف الكلمات الحارقة، والانتهاكات الخارقة، والمعتقدات المارقة. يظن أن خربشة ورقةٍ تمنحه حرية ملاحقة الناس ومحاكمتهم، كما تمنحه رصيدًا، وتمنحه أيضًا بعضًا من اختصاصات الله الذي اختصّ بها ذاته الرحيمة؛ ما يجعله يظن نفسه مستحقًّا للنيل من الأنفس بالتكفير والتحقير والتشهير، وكأن الباقة التي لا تزال في جيبه تمنحه سلطانًا على أناسٍ عند الله تجتمع خصومهم.

search