من سخرية الخلفاء للموت بالقباقيب، "شجرة الدر" المرأة التي هزت عرش مصر
شجرة الدر
في قلب التاريخ الإسلامي، برزت شخصية قلما تجد مثلها، امرأة كسرت قيود عصرها لتدخل صفحات السياسة كقائدة وحاكمة، سلطانة حكمت مصر بحكمة وحنكة استثنائية، لم تكن مجرد زوجة سلطان، بل كانت عقل الدولة النابض ويدها التي تحرك مقاليد الحكم في أوقات الحرب والسلام.
شجرة الدر، أو عصمة الدين، التي تحولت من جارية إلى ملكة، لتصبح رمزًا للقوة والدهاء في أوقات عصيبة في بداية عصر المماليك، غمرتها الحروب والمؤامرات والصراعات على السلطة، هنا تبدأ قصة امرأة لم يعرف التاريخ مثيلًا لها، قصة شجرة الدر، الملكة التي تحدت الصليبيين، وصنعت لنفسها اسمًا خالدًا بين الرجال.
القبيلة الذهبية
السلطانة شجرة الدر، المعروفة أيضًا باسم عصمة الدين، لم يُعرف تاريخ ميلادها على وجه الدقة، لكن المؤرخين يقدرون أنها وُلدت قبل عام 1230م وهناك اختلاف في نسبها، فقد ذكر بعضهم أنها من أصل تركي وقيل إنها شركسية أو أرمينية.
وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أنها من أرمينيا الحديثة وتنحدر من قبيلة القبجاق المعروفة باسم القبيلة الذهبية وهي من أصل تركي تقيم في حوض نهر الفولجا جنوب روسيا حاليًا.

ويُرجح ولادتها خلال اجتياح المغول لغرب آسيا، حيث تم استعباد بعض أبناء هذه القبائل وبيعهم كعبيد للأسر الحاكمة ومن بينهم الأسرة الأيوبية في مصر التي اشترت العديد من المماليك آنذاك.
يحدثنا المؤرخون عمّا كانت تتمتع به شجرة الدر من جمال بارع، وبياض للبشرة ناصع، وشعر أسود كثيف بخصلة تتدلى على جبينها فتزيد وجهها بهاء، وصوت آخاذ آسر في الغناء، وقادرة على القراءة والكتابة.
كانت مقيمة في حريم الخليفة العباسي المستعصم في بغداد ثم نُقلت إلى مصر أو دمشق عندما كانت في الحادية عشر من عمرها في عهد الملك الكامل ناصر الدين وأُهديت إلى ولي عهد الأسرة الأيوبية الأمير نجم الدين أيوب المعروف فيما بعد بالملك الصالح.
تطورت علاقة شجرة الدر بالملك الصالح فصارت المحظية المفضلة لديه بين جميع جواريه، ومنحها اسماً خاصاً وأنجبت له ولداً اسمه خليل إلا أن الطفل توفي صبياً وكانت شجرة الدر ترافق الملك الصالح في معظم سفره.
بعد وفاة الملك الصالح، برزت شجرة الدر بدور سياسي وعسكري كبير عندما اقترب ملك فرنسا لويس التاسع بحملته الصليبية السابعة نحو مصر، حيث أظهرت حنكة سياسية استثنائية.
وأخفت شجرة الدر نبأ وفاة الملك عن الجميع وأبلغت فقط الوزير الأعلى وبعض المقربين لإدارة الدولة من أجل تأمين وصول توران شاه ابن الملك الصالح إلى الحكم.
وأرسلت جثمان الملك الصالح سرًا إلى قلعة الروضة بالقاهرة، وحرصت على أن يبدو حيّاً من خلال المراعاة اليومية لطعامه وزيارات الطبيب.

أم خليل
قادت شجرة الدر الجيوش ضد الصليبيين الذين استولوا على بعض المدن الساحلية في مصر ونسقت مع توران شاه بعد وصوله للمنصورة لاستعادة السيطرة على دمياط وهزيمة الحملة الصليبية، حيث تم أسر الملك لويس التاسع.
بعد أن حكمت مصر سراً خلال معركة المنصورة ضد الصليبيين، قررت شجرة الدر أن تحكم البلاد جهراً، وفي هذه المرحلة كان المماليك البحريون يسعون لفترة انتقالية بعد وفاة الملك الصالح أيوب الذي يكنون له كل الاحترام والتقدير ورغبوا في الاستفادة من حكم امرأة لتكون واجهة تقبلها الشعب المصري، بينما يتحكمون هم فعلياً في مقاليد الحكم.
تم الاتفاق بين شجرة الدر والمماليك على توليها الحكم بعد مقتل توران شاه ابن الملك الصالح، وذلك في أوائل صفر سنة 648هـ، وأُصدر لها ختم ملكي باسم أم خليل وخُطبت على المنابر ودُعي لها في خطب الجمعة ونُقش اسمها على العملة المعدنية.
أدركت شجرة الدر أن حكم امرأة في مصر لم يكن مقبولاً عند الجميع، لذلك عمدت إلى ربط سلطتها بشرعية نسبتها إلى زوجها الراحل الملك الصالح نجم الدين أيوب، فلقبت نفسها الصالحية ونسبتها إلى ابنها السلطان خليل أمير المؤمنين، لتأكيد صلتها بالأسرة الحاكمة وربطها بالخلافة العباسية في بغداد.
وأضافت اسم الخليفة المستعصم بالله على لقبها، فأصبحت تعرف بملكة المسلمين المستعصم الصالحية والدة السلطان خليل أمير المؤمنين.
"أعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً"
باشرت شجرة الدر إدارة الدولة بمهارة وحنكة سياسية، وأول إنجازاتها كان إدارة مفاوضات مع الملك الفرنسي لويس التاسع لإنهاء الحملة الصليبية السابعة، إذ أُبرم اتفاق يقضي بتسليم دمياط للمسلمين ودفع فدية لإطلاق سراح لويس التاسع مع تعهد الصليبيين بعدم العودة لغزو السواحل المصرية مرة أخرى.
تبنت شجرة الدر سياسات شعبية لكسب تأييد الرعية، حيث مولت خزينة الدولة بفدية لويس التاسع، وقامت بتخفيض الضرائب لتخفيف الأعباء عن الشعب، إلى جانب تنصيب المماليك في أعلى الرتب العسكرية والإدارية لضمان ولائهم ووضعهم في مجلس الحكم وقيادة الجيوش.
رغم كل هذه الإجراءات، لم يتوقف رفض الشعب والعلماء لكون امرأة هي حاكمة البلاد خاصة في وقت حرج تمر به مصر، حيث شهدت القاهرة تظاهرات عارمة ضد حكمها امتدت إلى المناطق الريفية.
وأعلن العلماء والخطباء رفضهم لحكمها على المنابر وفي المحافل العامة، وعبر الخليفة العباسي المستعصم بالله عن سخريته من الفكرة، قائلا: "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً".

كما انضم أمراء الشام الأيوبيين إلى جانب الرافضين لحكمها، حيث اعترضوا بشدة على تولي امرأة الحكم في مصر.
حيلة الزواج
بعد رفض الخلفاء والأمراء الأيوبيين والشعب، لجأت شجرة الدر إلى حيلة ذكية من أجل حكم مصر، إذ أرادت الزواج ليكون زوجها واجهة للحكم وهي من تدير شؤون الدولة فعليًا من وراء الكواليس.
ركزت على أن يكون الزوج ضعيفًا نسبيًا أو بعيدًا عن الصراعات الداخلية ولا ينتمي لعائلة قوية مثل الأيوبيين حتى لا تؤثر على سيطرتها على مقاليد الحكم، لذا اختارت رجلًا من المماليك الصالحية لضمان ولائهم، ووقع الاختيار على عز الدين أيبك التركماني الصالحي.
بعدما حكمت شجرة الدر مصر لمدة 80 يومًا، وفي أواخر جمادي الآخر سنة 648هـ، أصبح عز الدين أيبك ملك مصر ولقب بالملك المعز والعزيز لمصر، إذ كانت شخصيته هادئة ومظهره وديع، لكنه لم يكن ضعيفًا كما توقعت شجرة الدر.
وأدار الملك المعز علاقاته مع المماليك بحنكة، إذ أسس مماليكه الخاصين المعروفين لاحقًا بالمماليك المعزية بقيادة سيف الدين قطز.
دهاء الملك المعز
بدأ عز الدين أيبك في ترتيب أوراقه السياسية والعسكرية بعيدًا عن سيطرة شجرة الدر والمماليك البحريين الذين شعروا بالغيرة والاستياء من سلطته.
وحدثت مواجهات مع أمراء الشام الأيوبيين الذين حاولوا استعادة حكم الأيوبيين لمصر، وانتصرت قوات الملك المعز عز الدين أيبك في معركة العباسية شرق الزقازيق سنة 648هـ.
وبعد عدة سنوات، وسع نفوذه ليشمل فلسطين حتى منطقة الجليل وحصل على اعتراف الخليفة العباسي بالمبايعة ما منح حكمه الشرعية.
مع مرور الوقت، بدأ عز الدين أيبك، هيمنته على الحكم تدريجيًا، فشعرت شجرة الدر بالتهديد من نواياه السياسية خاصة مع رغبته في الزواج من ابنة الملك بدر الدين لؤلؤ في الموصل، ما قد يؤدي إلى فقدان سيطرتها، فحاولت التآمر مع الملك الناصر في دمشق للتخلص منه، لكنه كشف مخططها.
انتقام امرأة
دبرت أم علي، زوجة عز الدين أيبك الأولى، مكيدة للتخلص من شجرة الدر، إذ أحضرتها بواسطة الجواري إلى بيتها وقامت بتعريتها جزئيًا وضربتها بالقباقيب حتى الموت.
وبعد وفاتها أُلقيت جثتها من أعلى القلعة ونُقلت إلى مكان دفنها المخصص قرب مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة.
ويقول المؤرخ المعاصر لها، ابن تاجري بوردي: "كانت يَقِظة تمامًا لتحقيق الرفاهية لرعاياها، وكانت تتميز بحضور قوي للغاية”، وأنهى تأبينه لها، مضيفًا: "شجرة الدر شخصية فريدة في الإسلام".
أما غريمتها، “أم علي”، فقررت أن تدعو كل سكان القاهرة إلى وجبة من الحلوى في نفس اليوم الذي تخلصت فيه من شجرة الدر.

وعندما ماتت شجرة الدر، أمرت طهاة القصر بإعداد تلك الوجبة، لكن الوقت لم يكن يسمح بالانتهاء منها في نفس اليوم، فجهزت وصفة طهي بسيطة للغاية، عبارة عن كميات ضخمة من الخبز، يتم تسخينها إلى درجة الاحمرار، وتغمر في اللبن والعسل ثم تغطى بطبقة سميكة من اللوز والزبيب والصنوبر.
وهي وجبة الحلوى اللذيذة التي تقدم في المطاعم في أيّامنا هذه، حيث سميت باسم أول من صنعها، "أم علي".
اقرأ أيضًا..
"وش الخير علينا"، ذكريات العمال مع بناء المتحف المصري الكبير (خاص)
"يا ليلة المتحف أنستينا"، كيف تفاعل المصريون مع حفل الافتتاح قبل ساعات من انطلاقه؟
في يوم افتتاح المتحف المصري الكبير، أنت مين في شخصيات الفراعنة المقدسة؟
الأكثر قراءة
-
معلق برائحة الماضي، محمد عفيفي يكشف نصيحة محمود معروف ودور والدة حازم إمام في مشواره
-
تعرف على أقرب محطة مترو للمتحف المصري الكبير 2025، بعد افتتاحه للجمهور
-
الفلوس بتاعتي والخمرة هدية، نص التحقيقات الكاملة مع البلوجر نرمين طارق (خاص)
-
بلاغ جديد من طليق رحمة محسن يتهمها بالتشهير والسب والقذف
-
بعد مطاردة سيارة ربع نقل، إحباط تهريب 1.5 طن دقيق مدعم في الأقصر
-
بالخطوات، استعلام نتيجة قرعة الحج 2026 بحسب المحافظات
-
بعد مد عمل لجان الحصر، قيمة الزيادة الجديدة في الإيجار القديم
-
ارتفاع جديد في سعر الذهب اليوم الإثنين 3 نوفمبر 2025، ما السبب؟
أخبار ذات صلة
بعد بطولة العالم للتايكوندو، 6 أسباب حوّلت الألعاب الشهيدة لـ"نجوم مضيئة"
03 نوفمبر 2025 03:22 م
"البقشيش" في مصر.. التضخم يفرض أحكامه على الجيوب الفارغة
03 نوفمبر 2025 01:17 م
معلق برائحة الماضي، محمد عفيفي يكشف نصيحة محمود معروف ودور والدة حازم إمام في مشواره
03 نوفمبر 2025 11:51 ص
"محلي ودولي"، لعنة إهدار ركلات الجزاء تواصل مطاردة زيزو
02 نوفمبر 2025 11:24 م
أكثر الكلمات انتشاراً