الجمعة، 07 نوفمبر 2025

12:40 ص

الإخوان والمتحف الكبير.. أبعاد سياسية وجذور فكرية

احتفلت مصر في الأول من نوفمبر الجاري بافتتاح المتحف المصري الكبير، وقدمته باعتباره "هدية مصر للعالم"؛ إذ يعد أكبر متحف في العالم يخصص لحضارة واحدة، بمساحة كلية تقدر بنحو نصف مليون متر مربع، ويضم آلاف القطع الأثرية. 

افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المتحف في حفل مهيب حضره 79 وفدا رسميا عالميا، وسط تغطية إعلامية محلية وإقليمية وعالمية وإشادات دولية بعظمة الإنجاز وتوقعات بجذب ملايين السائحين سنويا؛ ما ينعكس إيجابا على صورة مصر الدولية وحالتها الاقتصادية. 

قبل افتتاح المتحف بيوم واحد وصفته صحيفة الجارديان البريطانية بأنه "أكبر منشأة أثرية في العالم مخصصة لحضارة واحدة"، وقالت عن المشروع الذي تكلّف مليار دولار أمريكي: "إلى جانب كونه معرضا للتراث العريق؛ يمثل المتحف استثمارا استراتيجيا في السياحة الثقافية لثاني أكبر اقتصاد في أفريقيا بعد سنوات من الاضطرابات. 

وقد شهدت أعداد السائحين انخفاضا خلال ثورات الربيع العربي عام 2011 وجائحة فيروس كورونا. وقد زار مصر عام 2024، وفقا للأرقام الرسمية، عدد قياسي بلغ 15.7 مليون سائح، وتسعى الحكومة إلى جذب ضعف هذا العدد بحلول عام 2032".

وعلى المستوى الشعبي احتفى المصريون بافتتاح المتحف الكبير بنشر صورهم الشخصية بالزي الفرعوني على مواقع التواصل الاجتماعي باستخدام تقنيات الذكاء الصناعي لتوليد هذا النوع من الصور، والتفوا حول شاشات العرض في الميادين والبيوت لمتابعة الحدث الأبرز في ذلك اليوم، ما يعكس اعتزازا مصريا شعبيا بحضارة بلادهم القديمة.

على الجانب الآخر من الصورة، كان لجماعة الإخوان المصنفة في مصر إرهابية موقف مغاير تماما؛ ففي حين سكتت جبهاتها الثلاث المتنازعة على القيادة عن الحديث حول افتتاح المتحف إيجابا أو سلبا؛ انطلقت وسائل إعلام تابعة لها للتعبير عن مضامين محددة. 

في حلقة الخميس 29 أكتوبر قدمت فضائية “مكملين” حلقة من برنامج "ألو مكملين"، أقرّ مقدمها أحمد سمير بعظمة ما يمثله المتحف الكبير من إنجاز ثقافي، لكنه يرفض أن ينسب الإنجاز للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أو النخبة الحاكمة حاليا، مفضلا أن ينسب الإنجاز الكبير للشعب المصري كله ولكل الأنظمة التي تعاقبت على إتمام المشروع منذ حسني مبارك حتى الآن. 

وتناول العائد الاقتصادي المحتمل بنوع من التشكيك في نزاهة القائمين عليه زاعما أن رجل الشارع لن يفيد منه شيئا. ويرفض “سمير” انتساب المصريين إلى الحضارة الفرعونية، مؤثرا الانتساب إلى الجنس العربي.
وفي الفضائية ذاتها، عدّد أسامة جاويش في يوم الافتتاح جوانب العظمة في ذلك الإنجاز التاريخي، وأعلن اعتزازه به كمصري، لكنه رفض الاحتفاء به بزعم وجود سلبيات كبيرة في إدارة الدولة المصرية تمنعه كمواطن من إبداء السعادة.
ويرصد الكاتب هنا نشاطا ملحوظا لشباب موالين للإخوان على مواقع التواصل الاجتماعي، الذين دشنوا وسما بعنوان (يسقط فرعون) وطالبوا مناصريهم بتفعيله بالتزامن مع حفل الافتتاح، ووجهوهم بتكرار الوسم مرتين كل ربع ساعة بدءا من الخامسة مساء ولمدة أربع ساعات.

القيادي الإخواني يحيى موسى، المتهم بالإشراف على عدد من العمليات الإرهابية في الداخل المصري؛ يرى تعارضا جذريا بين الإسلام كما يفهمه وبين الحضارة المصرية القديمة، يقول في منشور له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: "هوية الإسلام المبنية على لا إله إلا الله ولا عبودية لبشر يجب أن تحارب لصالح هوية فرعونية ملخصها: أنا ربكم الأعلى، وما أريكم إلا ما أرى".

ولعل هذه الكلمات تفسر لماذا اختار الشباب الموالون للإخوان وسم (يسقط فرعون) لترويجه بالتزامن مع حفل افتتاح المتحف. ويذهب يحيى موسى بعيدا عندما يتهم الدولة المصرية، في منشور آخر، بالترويج للهوية الفرعونية بهدف "التطبيع مع مفهوم الحاكم الإله وشعب العبيد".

في السياق ذاته، يتحدث محمد إلهامي، القيادي في حركة ميدان المحسوبة على جماعة الإخوان، في منشور له على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، مفترضا وجود تعارض بين الإسلام والانتماء للحضارة المصرية القديمة: "الحمد لله على نعمة الإسلام والصلاة والسلام على نبينا محمد، أخرجنا من نعرات الجاهلية والقومية والعنصرية والانتماء للأجداث والحجارة، وجعل انتماءنا لفكر ودين نختاره ونتعقله ونتبصره… نؤمن بموسى ونحبه ونكفر بفرعون ولو كنا من صلبه".

منشورات إلهامي ويحيى موسى لا تبتعد كثيرا عن أفكار سيد قطب كواحد من أبرز منظري الإسلام السياسي في القرن العشرين؛ في كتابه "معالم في الطريق" فصل تحت عنوان "الإسلام هو الحضارة"، يتكلّم قطب مفترضا وجود ثنائية متناقضة: "الإسلام لا يعرف إلا نوعين اثنين من المجتمعات؛ مجتمع إسلامي ومجتمع جاهلي". ويحصر قطب معنى الحضارة في القيم وينفيها عن المادة: "وحين تكون إنسانية الإنسان هي القيمة العليا في مجتمع… يكون هذا المجتمع متحضرا". ثم يقرر: "فإذا انتكس هذا الخط مع حضارة المادة فلن يكون ذلك حضارة، إنما هو التخلف أو هو الجاهلية".
كل ما سبق كان صدى لأفكار عبّر عنها حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان منذ عشرات السنين؛ يقول في رسالته "دعوتنا" مقارنا بين جماعته والحركات الوطنية: "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية". 

ويتحدث في رسالته "دعوتنا في طور جديد" عن الحضارة المصرية القديمة مفترضا وجود تعارض محتمل بين الانتماء إليها والانتماء إلى الإسلام: "فنحن نرحب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة، ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام وشرح له صدرها وأنار به بصيرتها وزادها به شرفا ومجدا فوق مجدها، وخلصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية وأدران الشرك وعادات الجاهلية".

بهذه المضامين تفاعل الإخوان مع ذلك الحدث المهم، منطلقين من موقف سياسي رافض للنظام الذي أطاح بحكمهم قبل اثني عشر عاما ولا يسأمون من التبشير بإسقاطه، ومن موقف فكري تأسس قبل نحو قرن من الزمان وافترض تناقضا بين الانتماء للإسلام والانتماء لحضارة البلاد القديمة. ذلك الموقف الذي عبّر عنه حسن البنا بعبارات حاول أن تكون دبلوماسية، ثم عبر عنه سيد قطب بعبارات مباشرة وصادمة.

search