الجلابية ليست تهمة يا سيدة "الصورة الجميلة"
هناك كلمات تمرّ عابرة، وهناك كلمات تُحدث في الوجدان المصري رجّة، لأنها تمسّ الجذر لا السطح.
وحين قالت السيدة سمر فودة إن "الجلابية وهابية لا تمثل مصر"، وأن "مصر كانت شيكًا قبل المدّ الديني"، كانت في الحقيقة تكرّر خطأً قديمًا في ثوب جديد: الخلط بين الشكل والحقيقة، وبين الزي والهوية، كأن مصر يمكن أن تتغير بتبدّل القماش.
الجلابية التي تراها سمر رمزا للتخلّف أو للمدّ الوهابي، هي في حقيقتها مرآة مصر القديمة والحديثة معًا. ليست زِيًّا دينيًا، بل جزءًا من نسيج المكان والزمان.
هي ليست شعارًا لأحد، ولا عباءة أيديولوجية، بل رمزٌ للانتماء، للبساطة، وللسكينة التي تشبه نيلها حين يمرّ هادئًا بين الضفتين.
إن الجلابية المصرية لم تأتِ من الصحراء، بل خرجت من رحم وادٍ خصب، من تاريخٍ طويلٍ صنع الجمال من العرق، والهيبة من البساطة.
الجلابية ليست وهابية يا سيدتي، بل مصرية حتى النخاع، كانت تُرتدى في الأفراح كما في الحقول، في الموالد كما في المناسبات، في الأزهر كما في الأسواق. هي زيّ الأرض قبل أن تُصبح موضة الشاشة.
مصر لم تكن "شيكًا" قبل أحد ولا بعد أحد؛ كانت ببساطة مصر، أناقتها لم تكن في القماش المستورد، بل في التوازن العجيب بين البساطة والهيبة، بين الرقة والقوة.
من الظلم أن نحاكم رمزًا مصريًا بهذه الخفة، أو نربطه بمرحلة سياسية عابرة. فالثوب لا يُدان، بل يُقرأ. والجلابية ليست مجرد قطعة قطن، بل نصّ اجتماعي طويل كتبه المصريون على مدى القرون بلغتهم الخاصة.
الهوية ليست ما ترتديه الأجساد، بل ما يسكن الأرواح، من ظنّ أن الثوب قد يغير جوهر الأمة، فقد نظر إلى مصر بعين السائح لا بعين ابنها.
فمصر لم تعرف التطرف بثوب، ولم تعرف التحضّر ببدلة؛ هي من علّمت العالم أن الإنسان لا يُقاس بمظهره، بل بما يزرعه في الأرض من معنى.
الجلابية ليست علامة دينية، بل علامة مكانية وزمانية، هي ثوب الإنسان الذي يعيش على هذه الأرض منذ آلاف السنين، تغيّر كل شيء حولها: الحكم، اللغة، الاقتصاد، حتى الذوق، وبقيت هي لأنها ببساطة تشبه روح مصر: مطمئنة، غير متكلفة، صافية لا تعرف المبالغة.
أن تصفيها بالوهابية، فذلك كمن يتّهم الأهرام بالجهل لأنها بلا زينة، الجلابية ليست ضد الأناقة، بل ضد التصنّع؛ ليست رمزًا للرجعية، بل للانتماء.
هي درس في الجمال الطبيعي، في كيف يمكن للبساطة أن تُعبّر عن العظمة دون أن ترفع صوتها، وحين تتحدثين عن "صورة مصر أمام العالم"، فاعلمي أن العالم يحترم من يعرف نفسه لا من يقلّد سواه، مصر لا تُجمّل بثوب جديد، بل تُجمل بالوعي، بالكرامة، بالثقة في ماضيها.
الجلابية لا تُشوه صورتها، بل تُذكّرنا بأصلنا حين كنا أكثر صفاءً، قبل أن نحوّل كل شيء إلى "ماركة" وكل معنى إلى "ترند".
يا سيدة الرأي، ليست الجلابية هي المشكلة، بل النظرة التي فقدت عمقها، مشكلة هذا الزمن أنه يريد أن يُجمّل كل شيء بالطلاء، حتى الهوية، لكن مصر لا تُصبغ، لأنها خُلقت بلونها الأزلي، لون الطين والنيل والشمس.
إن الهوية ليست مسألة أقمشة ولا خطوط موضة، بل سيرة وطنٍ بأكمله، والجلابية، مهما تغيّر الزمن، ستبقى تشهد أن مصر لا تُقاس بما ترتديه، بل بما تحمل في وجدانها من ثبات، وهدوء، وكرامة.
مصر لا تخجل من بساطتها، بل تتباهى بها، فالبساطة في قاموسها ليست فقرًا، بل أصل النقاء، ولذلك ستبقى الجلابية، رغم كل ما قيل، رمزًا خفيًا لهويةٍ لا تموت، تمامًا كما تبقى مصر نفسها: بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها، تلبس التاريخ لا الموضة، وتفخر بأنها تشبه نفسها، لا أحدًا سواها.
الأكثر قراءة
-
"الحاج الضوي" لـ سمر فودة: الجلابية رمز الصعيد والهوية المصرية
-
موقف إجازة المدارس في انتخابات مجلس النواب 2025 ومواعيد التصويت
-
شقيق إسماعيل الليثي يكشف لـ"تليجراف مصر" تطورات حالته بعد حادث المنيا المروع
-
"شهقت وماتت"، ننشر أقوال زوج تغريد العروس المتوفاة بعد ساعات من زفافها
-
بعد القبض على المتهمين، الفتاة المعتدي عليها من خليجي تشيد بالشرطة: "قادرة تحمي بناتها"
-
تحذير من "هجمة يوم الصفر".. تستهدف تطبيق واتساب
-
ما هو حفل "الجراند بول" الذي تستضيفه مصر في قصر عابدين؟
-
"خناقة عيال"، أقوال الملاكم المتهم بالتعدي على أسرة بالشيخ زايد (خاص)
أكثر الكلمات انتشاراً