الأحد، 16 نوفمبر 2025

12:24 ص

زينب عبد الرزاق

فاروق حسني

في زمنٍ عزَّ فيه وجود المثقف الحقيقي، وتضاءل دور الفنان في تشكيل الوعي الجمعي، تبرز شخصية فاروق حسني كاستثناءٍ لافت.. إنه نموذج “المثقف المسؤول” الذي امتلك رؤية ثقافية استثنائية، وحنكة إدارية نادرة، فحمل مع فرشاته وألوانه مشروعاً نهضوياً لمصر. 

لم تكن رحلته عادية، بل كانت إعادة تعريف لدور المثقف في الحياة العامة - ذلك الدور الذي يجمع بين عمق الرؤية الفكرية وبراعة التنفيذ العملي. من خلال عين الفنان ويد المسؤول، استطاع أن ينسج خريطة طريق للثقافة المصرية، تضع الهوية في مواجهة تحديات العولمة، وتجعل من التراث منصة للانطلاق نحو المستقبل.

انطلقت رؤيته من إيمان راسخ بأن الثقافة هي الوجه الآخر للأمن القومي. لم تكن مشاريعه مجرد مباني ترفع أو أنشطة تُنظم، بل كانت خطوطاً في رسم استراتيجي كبير يهدف إلى إعادة مصر إلى موقعها الطبيعي كقاطرة ثقافية للأمة. 

لقد فهم أن قوة مصر الناعمة هي رأس حرفتها في عالم ما بعد الصناعة، فجعل من وزارة الثقافة منصة لإطلاق الطاقات الإبداعية، تحولت الثقافة من خطاب نخبوي إلى ممارسة جماهيرية، فازدهر المعرض العام للفنون التشكيلية، وانتشرت مراكز الإبداع، وتم تدشين مشروعات النشر التي جعلت الكتاب في متناول الجميع. 

كان يؤمن بأن الجمال حق للشعب، وأن الاهتمام الوعي الجمعي بالثقافة هو الضمان الوحيد لمجتمع قوي متماسك
وفي قلب هذه الرؤية، يبرز المشروع الأسطوري المتحف المصري الكبير. هنا، تجلت عبقرية فاروق حسني الاستشرافية. 

لم يكن المتحف مجرد صرح لعرض الآثار، بل كان بياناً استراتيجياً من لحم وخرسانة.. هو إعادة كتابة للسردية الحضارية المصرية. بموقعه بين الأهرامات، يتحول المتحف إلى جسر بين عظمة الماضي وطموح المستقبل. لقد أدرك أن من يمتلك رواية تاريخه يمتلك مفاتيح مستقبله.. فالمتحف الكبير ليس مجرد وعاء لحفظ الآثار، بل هو آلة زمن تضع الزائر في قلب الحكاية المصرية، لتقول له.. هذه ليست حضارة انتهت، بل هي حضارة حية مستمرة، نابضة في وجدان أبنائها. إنه مشروع يضع مصر على خريطة السياحة الثقافية العالمية كمقصد لا بديل عنه، محولاً تراثها من مادة للدراسة الأكاديمية إلى تجربة حياتية تثري الوجدان الإنساني.

يظل فاروق حسني يمثل جوهر المثقف الفنان.. لوحاته هي المرآة التي تعكس روحه الشغوفة.. هذه الروح هي التي منحته الحساسية المرهفة لفهم دور الجمال في بناء الإنسان. لقد أثبت أن الحساسية الفنية ليست عائقاً في عالم السياسة، بل يمكن أن تكون أداة فذة لقراءة الواقع بطريقة أكثر عمقاً وإنسانية.

اليوم، مع اكتمال الحلم الكبير، نقف أمام نموذج فريد للمثقف، الذي لم يكتف بالنقد من خارج الأسوار، بل دخل إلى قلب المؤسسة حاملاً معه حلم الفنان وإرادة المسؤول. فاروق حسني لم يكن وزيراً للثقافة فحسب، بل كان مهندساً لروح مصر في زمن ملذ بالتحديات.. مشروعه كان ولا يزال تذكرة بأن الدول تبنيها الرؤى الكبيرة، وأن الثقافة هي آخر ما تخسره الأمم وأول ما تبنيه. 

في سجله حكاية مصر التي ترفض أن تكون مجرد ذكرى، وتصر على أن تكون مستقبلاً، يظل فاروق حسني نموذجاً نادراً يُحتذى به، ذلك الفنان الذي لم ينعزل، بل نزل إلى ساحة الفعل حاملاً مشروعه الثقافي الكبير كرسالة حب لمصر. إنه المثقف المسؤول الذي فهم أن الوطن لا يُبنى بالشعارات وحدها، بل بالإرادة الصلبة التي تحوّل الرؤى إلى واقع ملموس.. من المتحف الكبير الذي سيظل شاهداً على عظمة مصر، إلى المشروعات الثقافية التي لمست حياة الملايين، ترك إرثاً لا يمحى. فالشكر ليس كلمة تقال، بل هو اعتراف بالجميل لأحد أبرز مهندسي الوجدان المصري الحديث، الذي كرّس حياته ليعيد للجمال مكانته، وللهوية رونقها، وللوطن جزءاً من مجده العريق. تحية إجلال وإكبار لفاروق حسني، الفنان، الوزير، والإنسان، الذي جسّد بحق معنى أن تكون مثقفاً تحمل هموم وطنك، وتعمل في صمت ودأب.

search