الجمعة، 19 ديسمبر 2025

08:36 ص

حين ننجو لا نُصفّق لأنفسنا

لسنا دائمًا كما نبدو، نضحك لأننا تعلّمنا كيف نُخفي، ونبدو ثابتين لأننا اعتدنا أن نُرمّم أنفسنا في الخفاء. 

فبعض القلوب لا تَنجو بالضجيج، بل بالصمت الطويل الذي لا يراه أحد. تمرّ بنا السنوات لا كأرقامٍ في التقويم، بل كاختبارات صامتة، تسرق منا شيئًا وتترك لنا شيئًا آخر لا نفهم قيمته إلا متأخرًا، فالزمن لا يأخذ فقط الزمن يُبدّلنا. 

هناك أعوام لا تُشبه بدايتها نهايتها، أعوام تبدأ ونحن نثق، وتنتهي ونحن نفهم لا تُعلّمنا كيف نربح، بل كيف نخسر دون أن نفقد أنفسنا بالكامل. والخسارة التي لا تُفقدك نفسك، ليست خسارة كاملة. 

الزمن لا يعتذر، يمضي، ويأخذ معه وجوهًا، وأحلامًا، ونسخًا قديمة منّا كنا نحبّها. لكنه، في المقابل، يتركنا أكثر وعيًا، أقل اندفاعًا، وأكثر حذرًا في منح القلب مكانته. 

فالقلب الذي تعلّم لا يُغلق لكنه يُحسن الاختيار. وكم من جراحٍ لا تُرى لكنها تعيد تشكيل الروح من الداخل جراح لا تترك ندبة ، لكنها تغيّر طريقة نظرتنا للعالم وتجعلنا نختار الصمت بدل الشرح ، والهدوء بدل الجدال، والانسحاب بدل التعلّق الأعمى فالوجع الذي لا يُرى هو الوجع الذي يُربّي فينا الحكمة.

 ننجو لكن لا أحد يخبرنا أن النجاة ليست حدثًا، بل حالة مستمرة أن تستيقظ وتكمل رغم ثقل الصدر أن تبتسم وأنت تحمل ما لا يُقال أن تواصل السير حتى حين لا تكون متأكدًا إلى أين، أن تبقى رغم أن شيئًا فيك كان يستحق الرحيل. 

ننجو حين نكفّ عن انتظار إنصاف متأخر، حين نفهم أن بعض الناس لم يخذلونا، بل كشفوا لنا حدودهم. وحين ندرك أن الفقد لا يعني الهزيمة ، وأن الانكسار ليس عيبًا، بل مرحلة عبور. فالقلوب لا تنكسر لتتوقف . بل لتعرف أين تقف. 

الغريب أننا لا نصفّق لأنفسنا بعد كل هذا، لا نقف أمام المرآة لنقول : لقد صمدت نحسب النجاة أمرًا عاديًا، وننسى أنها كانت شاقّة، وأننا كنا، في لحظة ما، على حافة السقوط. وننسى أن البقاء وحده ، في بعض المراحل كان بطولة صامتة . 

لكن الحقيقة أبسط وأقسى: من ينجو يتغيّر . لا يعود كما كان ، ولا يريد أن يعود . يتعلّم أن يحبّ دون أن يذوب ، وأن يشتاق دون أن يضيع، وأن يثق دون أن يُسلّم نفسه كاملة. فالحب الناضج لا يصرخ، الحب الناضج يبقى وهنا، فقط هنا، يبدأ النضج الحقيقي. ليس في القوة الظاهرة ، ولا في الانتصارات العالية الصوت ، بل في تلك القدرة الهادئة على الاستمرار دون ضجيج ، ودون ادّعاء، ودون حاجة لأن يراك أحد.

 فقل لي : هل مررتَ بعامٍ لم يكن الأسهل لكنه علّمك كيف تحبّ نفسك كما هي لا كما كنت تتمنى ؟

search