الإثنين، 22 ديسمبر 2025

04:15 ص

بين أفق الانتظار والنص المغلق؟

هل تكون البداية شخصية فأحكي لكم عن منهج أحببته في الكتابة أم بداية أكاديمية تليق بجلال وأهمية النظرية ؟ لا أعرف  كالعادة وبالتالي سأبدأ بالاثنين معا.

بداية معرفتي بالكتابة مع بداية الدراسة في معهد الفنون المسرحية قسم نقد، وبداية معرفتي بعالم القصة القصيرة الساحر في الوقت نفسه.. 
وجدت حريتي وعالمي الحقيقي حيث الكلمات تكون أنا .. ترفرف، تنطلق سعيدة حرة رغم  المواقف القاتمة التي أكتبها.. تعلمت الكتابة بالكتابة لأكتشف بعد سنوات اني أعدت اختراع العجلة في مجهود شاق يشبه مجهود بطل نجيب محفوظ في رواية (قلب الليل) الذي  اخترع كل الاختراعات الموجودة فعلا.

هل كان تقصيرا مني أو عدم اهتمام بدراسة فن القصة القصيرة بشكل أكاديمي تستحقه ؟ بالتأكيد ـ وما سيأتي ليس تبريرا ـ لكن في زمني لم تتوفر المراجع أو البحث المعمق كما أستطيع الآن.

ربما لهذا فكرت في نظرية القارئ المشارك المبدع الذي يبدع أجزاء في النص فيتحول النص لشيء خاص يملكه وينتمي إليه ، يحكيه كل مرة بشكل مختلف لأنه يفهم منه شيء جديد ، وبالتالي النص لا يغلق بل يظل متجددا يختلف باختلاف القارئ. 

هذه الفكرة فهمتها من اللوحة في الفن التشكيلي حيث تكتسب اللوحة وجودها من انفعال المتلقي وثقافته. 

لكن هل كانت فكرتي مختلفة أو جديدة ؟ بالفعل مختلفة لكنها ـ بعد الاطلاع ـ  لم تكن جديدة  كما اعتقد حتى أوائل سنة 2022 كنت أعتقدها نظرية خاصة حتى شاهدت فيديو عن نظرية التلقي لأحد النقاد العرب د. إبراهيم حجاج  وبدأت في البحث عنها.

فوجدت جامعة كونستانز الألمانية النقدية في (نظرية التلقي) تطبقها في نهايات ستينات القرن العشرين ولنحاول فهم النظرية بشكل بسيط.

هذه النظرية غيرت زاوية الكاميرا من التركيز على المؤلف وأفكاره إلى التركيز على القارئ؛ كيف يقرأ العمل وكيف يشارك في صنع المعنى فنظرية التلقي ظهرت كرد فعل أو تمرد على تيارات نقدية مسيطرة في الساحة النقدية انقسمت بين اتجاهين:

أولا، مناهج لا تتعامل مع النص بل تتعامل مع نفسية المؤلف أو تاريخ النص مثل المنهج التاريخي أو النفسي أو مناهج تربط الأدب بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي مثل الماركسية مثلا، كل هذه المناهج تعاملت مع النص بطريقة تفسيرية لا تهتم بالجماليات أو بالأسلوب بل تهتم بأشياء مختلفة عن النص نفسه.

ثانيا، الاتجاه العكسي تماما يركز بشكل حصري ومكثف على النص نفسه بنيته الداخلية ولغته، وهذا الاتجاه نراه في النقد البنيوي حيث تركز على النص فقط وكأنه كائن مستقل بنفسه ،فالنص بناء لغوي مغلق  وشعار هذه المدرسة "موت المؤلف " وكذلك الشكلانية الروسية وهي مناهج مهمة لفتت الانتباه لجماليات النص بالطبع  لكن تجاهلت أو تناست القارئ أصلا. 

ومن هنا ظهرت نظرية التلقي لتنقل مركز الاهتمام إلى القارئ، فلم يصبح مجرد مشارك سلبي بل هو مبدع مهم لا يقل أهمية عن المؤلف  ، فالنص هنا بناء غير مكتمل يكتمل معناه فقط عندما يلتقي بقارئ يعيشه بمختلف تجاربه وخبراته الثقافية. 

ولنضرب مثال عن الفارق بين النقد التقليدي ونظرية التلقي  فالأول التقليدي يشبه البحث عن كنز دفين والمعنى موجود مسبقا ، لكن مع نظرية التلقي، يقدم النص قطع الليجو، والقارئ هو من يبني البناء وفقا لخياله وتجاربه.

ونتذكر أيضا المناخ الاجتماعي والسياسي بداية من  الحراك الطلابي ومظاهرات 1968 في فرنسا، والدول الأخرى لنفهم ملمحا مهما من كيفية تكوين هذه النظرية المختلفة في النقد الأدبي فاعتبرت كحركة تمرد على السلطة التقليدية النقدية.

هانز روبرت ياوس وزميله فولفغانج إيزر هما أصحاب نظرية التلقي وإن كان كل شخص له وجهة نظر مختلفة، وكلمة تلق لها أصل لغوي فهو يفيد الاستقبال والمقابل وفي سياق النقد الأدبي تشير كلمة التلقي إلى عملية استقبال والتعامل مع النص  ليس مجرد حروف وكلمات، بل بعين الفحص والمشارك والمتذوق المبدع لكي يفهم و يحلل النص، وهذه عملية غير محايدة بل تختلف وتتلون مع كل قارئ حسب ثقافته و خبراته حتى توقعاته وهو يبدأ النص.

ولنبدأ بـ  فولفغانغ إيزر فرأيه في عملية القراءة هو التفاعل بين النص وعقل القارئ ومن أهم المفاهيم التي تكلم عنها: - "القارئ الضمني " وهي فكرة تطورت لتصبح كأنها بروفايل لشكل معين لمتلق ما يتجه إليه هذا النص، لكن ليس شخصا بعينه، بل هو مجموعة من الإشارات والاستراتيجيات وطريقة السرد، مستوى اللغة المستخدمة، والإشارات الثقافية) ما يتكلم عنه النص، وما يتركه كفجوات. 

كل هذا يستدعي نوع معين من القراء فهو قارئ قادر على فهم كل هذه الإشارات ويتفاعل معها لكي ينتج معنى خاصا به فقط ، وهذا بالطبع مختلف عن استهداف شريحة عمرية مثلا، باختصار كأن النص يرسم صورة مثالية لقارئه النموذجي.

أما المفهوم الآخر الذي تحدث عنه إيزر هو مفهوم الفجوات أو مناطق اللا تحديد فهو يرى النص الجيد لا يقدم كل شيء جاهز على طبق من ذهب، بل يترك عن قصد مساحات أو فراغات أو أسئلة بلا إجابات سهلة أو واضحة، والفجوات هنا ليست ضعف في النص بل هي دعوة للقارئ للمشاركة حيث تحفزه تلك الفجوات لتشغيل خيال القارئ ويستنتج الدوافع مثلا فيكمل ما تركه النص عن قصد، فالمعنى هنا لا يظهر فقط من النص بل يتكون بشكل أكبر من نشاط القارئ الذهني والتأويل وبالتالي القراءة هنا عملية بناء نشطة وليست استقبالا سلبيا.

ألا يذكرنا هذا بروايات الغموض والبوليسية حيث يترك الكاتب أدلة ما يجمعها القارئ ليصل إلى الحل، وهذا مثال على التفاعل النشط الذي يقصده إيزر ، ويقود هذا لمفهوم مهم وهو الصورة الذهنية حيث لا يستقبل القارئ النص كمعلومات جافة بل إنه يبني داخل عقله صورة كاملة للشخصيات والعالم والأحداث هذه الصور تتكون بناء على النص وقدرة القارئ على التخيل والربط وملء هذه الفجوات بالصور الذهنية.

ونأخذ مثال لنص أراه نص مفتوح حداثي رغم كتابته في منتصف الستينيات وهو نص رجال في الشمس للكاتب غسان كنفاني فمثلا، لماذا لم يطرق المحبوسون داخل الخزان على الجدران؟ وهي فجوة قصدها الكاتب ليبرز مدى عبثية المأساة ووحدتها معا. 

يصف إيزر عملية القراءة بطريقته بمفهوم وجهة النظر الجوالة فالقراءة هنا ليست مثل المشي في خط مستقيم من بداية الكتاب لنهايته بل هي رحلة استكشافية تتغير وجهة نظر القارئ باستمرار مع كل كلمة وموقف يربطها بما سبقه ويتوقع له أشياء مختلفة يربطها بما يتبعها وهكذا، ومع كل فقرة وفصل جديد من الممكن تعديله أو تغيير وجهة نظره لما سبق وما سيأتي بناء على المعلومات الجديدة فالقراءة هنا عملية مستمرة من البناء والتعديل. باختصار ركز إيزر على التفاعل داخل النص ولحظة القراءة. 

أما الناقد الثاني هانز روبرت ياوس فقد تقدم بوجهة النظر لدرجة مختلفة  حيث تعامل مع الصورة الأكبر في البعد التاريخي والثقافي لعملية القراءة، حيث قدم مفهوم أفق الانتظار وهذا المفهوم يبدو شاعري البناء واللغة وهو تقريبا مبني على هذا المنطق فتخيل أن كل قارئ يقرأ النص يحمل حقيبة تحمل كل تجاربه في القراءة المسبقة، ومعرفته بالأنواع الأدبية وما نتوقعه من قصيدة غزل أو من رواية خيال علمي بالإضافة للقيم الجمالية والأعراف الثقافية التي عرفها وتعلمها.

هذه الحقيبة هي أفق الانتظار بالنسبة لياوس، وهي لها تأثير هام ـ من وجهة نظره ـ على عملية القراءة فهو يدخل على كل نص بإحدى احتماليتين إما أن يقبل التوقعات الموجودة عند القارئ فيشعر عندها القارئ بالراحة أو الألفة أو الاحتمال الثاني أنه يتحدى هذا الأفق ويصدمه ويخالف توقعاته وهنا يرى ياوس أن الأعمال الأدبية العظيمة المبتكرة هي التي تتحدى أفق الانتظار وتجبر القارئ على إعادة النظر في أفكارهم الجمالية وعاداته الثقافية السابقة، وبالتالى اتساع أفق نظرتهم الأدبية لتشمل معاني أكثر وجماليات جديدة.

فيرى ياوس أننا نستطيع قراءة تاريخ الأدب على أنه تاريخ تغير وتطور في آفاق القراءة وانتظار القارئ عبر الزمن ، وهذا يقود مباشرة إلى مفهوم ياوس الثاني "المسافة الجمالية " وهي الفجوة أو الصدمة بين أفق انتظار القارئ التقليدية وصدمته تلك المسافة. فرأى ياوس زيادة الجودة في العمل الأدبي مع زيادة المسافة الجمالية فعندما تزيد المسافة  ويكون العمل الأدبي صادما ومجددا بالنسبة لعصره صدمة القارئ تزداد قوة ويتألق العمل الأدبي أكثر. 

فمثلا، لوحات بيكاسو التكعيبية مع ظهورها أول مرة أنشأت مسافة جمالية كبيرة لأنها كسرت أفق انتظار المتلقي لما ينتظره أو يتوقعه لشكل اللوحة العادية ، وهذه الصدمة علامة على القيمة الفنية الحقيقية كما يرى ياوس. 

إذن، يركز إيزر على تفاعل القارئ مع البنية الداخلية للنص ، في حين يركز ياوس على الأفق التاريخي والثقافي للقارئ ، وهناك تميز مهم لأومبرتو إيكو عن الفارق بين النص المفتوح والنص المغلق وسنكتب مقال مفصل عنه لاحقا بإذن الله. 

فعل القراءة ليس مجرد تلق، بل نشاط جسماني يتطلب استخدام الحواس  ، مثل البصر واللمس ونشاط ذهني يتطلب تحليل وربط ونشاط عاطفي من التأثر والنور والتعاطف ، ونشاط تخيلي يبني صور ويملأ فجوات كما قال إيزر ووأخيرا، نشاط رمزي نربط فيه عالمنا الثقافي وبالمخزون الرمزي للمجتمع والعمل الأدبي أو الثقافي الذي نتلقاه ، القراءة هكذا رحلة متكاملة الأبعاد.

بالمناسبة التفاعل في القراءة لا يبدأ من النص الداخلي بل يبدأ من الغلاف والعنوان فيما يسمى بمفهوم العتبات النصية أو النص الموازي حسب رأي جيرارد جينيه حيث يشير لكل شيء يحيط بالنص الأساسي ليقدمه للقارئ مثل العنوان، تصميم الغلاف وألوانه وصوره، الإهداء، المقدمة، الهوامش، اسم المؤلف، اسم دار النشر فكل هذه العناصر (حسب نظرية عتبات النص) كلها إشارات ورسائل قوية موجهة  للقارئ تساهم في بناء أفق انتظار القارئ قبل القراءة وتوجه عملية التأويل للنص، ولنأخذ مثال غلاف رواية واسيني الأعرج (كتاب الأمير) بألوانها الأحمر والبني والأبيض مع صورة الأمير عبد القادر بالزي العربي، والكرسي الفارغ بجواره ثم العنوان نفسه كل هذه تهيئ القارئ وتزرع في عقله توقعات معينة عن موضوع الرواية وأحداثها بل وحتى توجهات وسياسات الكاتب قبل فعل القراءة نفسه. 

تلخيصا لما سبق، نظرية التلقي ظهرت كرد فعل عكسي ضد إهمال القارئ في البنيوية والشكلانية  لكنها تختلف عن نظريات أخرى اهتمت بالقارئ والتأويل مثل التفكيكية لجاك دريدا (حيث تفتح التفكيكية المجال لقراءات لا نهائية لدرجة ضياع النص الأصلي أساسا وسط كل هذا التأويل الذاتي المفرط)، هنا نظرية التلقي تحاول التوازن (خاصة عند إيزر وياوس) حيث تؤكد على حرية القارئ ودوره لكن تعترف أيضا بحدود النص الخاصة فهي لا تتخطى النص لأي مفهوم دخيل عليه. 

أما مفهوم موت المؤلف للنقد الفرنسي رولان بارت فيبدو أنه يتفق مع نظرية التلقي في أهمية القارئ لكن نظرية "بارت " انطلقت من موت المؤلف لكي يحرر القارئ ويمنحه الحرية الكاملة في التأويل والنقد، لكن نظرية التلقي لا تقتل المؤلف بل تركز على التفاعل بين استراتيجيات النص التي استخدمها المؤلف بشكل ما وبين نشاط القارئ التأويلي الشخصي فهي هنا علاقة ديناميكية، وليست إقصائية من طرف لصالح طرف آخر.

تلقت نظرية التلقي نقدا هاما في أن هذا التركيز الشديد على القارئ وتجربته ربما يؤدي إلى  الذاتية المفرطة ويضر النص نفسه، وهو قلق مشروع حيث الخوف من تحول القراءة لهدف تأويلي يغوص فيه القارئ متناسيا حدود وآليات النص نفسه وهنا نجد الالتفات لمصطلح جديد وهو "التمييز" بين مستويات القراءة وأنواع القارئ نفسه، فهناك القارئ المؤهل أو الخبير صاحب الأدوات النقدية المعرفية بغوصه في طبقات النص العميقة ليفهم كيف يتناوله ويخضعه للتأويل بناء على هذه الخبرة، وهذا يختلف بالطبع عن القارئ العادي الذي يكتفي بالنسق الأول من الحكاية مثلا ويتعامل مع النص بالانطباعات والتأثير العاطفي فقط. 

فمثلا، الدكتورة شادية شقروش في مساهمتها في نقاش في أحد المنتديات الأدبية تشدد على أن التأويل المشروع ينطلق بالتأكيد من بنية النص الداخلية وعلاقاته المنطقية، وليس من إسقاطات خارجية بلا سند، رأيها أن تعدد القراءات النقدية للنص الواحد حسب نظرية التلقي ليس معناه التناقض أو إلغاء بعضها البعض بالعكس فهي تتكامل حيث كل قراءة تنير وتوضح زاوية مختلفة جديدة من هذا العمل الفني الغني، وهي أيضا تصف النقد القائم على نظرية التلقي بأنه إبداع من الدرجة الثانية يعتمد على إبداع المؤلف أولا لكنه يضيف إليه إبداعه الخاص، وفي النهاية تصر دكتورة شادية على ضرورة المحافظة على التوازن في المعادلة الثلاثية بين المؤلف والنص والقارئ فلا يجوز إلغاء أي طرف منهم.

search