الخميس، 15 مايو 2025

06:14 ص

مظهر شاهين
A A

مظهر شاهين يكتب: ترامب ترامب “اسم الله عليه”

في الحارات والأزقّة القديمة، كما صوّرتها لنا الأفلام، كان الناس يعيشون على الكفاف، وتُثقِل الحاجة ظهورهم كلَّ يوم، تحت سطوة فتوة لا يرحم، يفرض إتاوته باسم الحماية، ويُخضع الضعفاء بقوة النَّبوت، لا بقوة الحق.

وكان المُنادي يطوف الحارة هاتفًا باسمه: “فلان… فلان… اسم الله عليه!”، فيردّد الغلابة خلفه: “اسم الله عليه… اسم الله عليه”، لا حبًّا بل رُعبًا، بينما تتبعهم أنغام الطبل البلدي، ويهرولون خلف عربته أو حصانه، يغشاهم الغبار، وترتجف قلوبهم وهم يرقصون اضطرارًا لا طربًا، ويتظاهرون بالبهجة كمن يبتلع مرارة الخوف في كأسٍ من الزيف.

كانت الطاعة تُشترى بالخوف، والهيبة تُفرض بالعصا، والناس يُجبرون على التهليل، وهم يلعنون في سرّهم اليد التي تُطعمهم ألمًا باسم الأمان.

وما أشبه الليلة بالبارحة! فمشهد الفتوة لم يبقَ حبيس الحارة، بل تمدّد إلى المسرح العالمي، وتجسّد في شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعاد صياغة العلاقات الدولية بمنطق “المعلّم”، لا بمنطق الدولة.

فتوة السينما ونظيره في السياسة

جسّدت السينما المصرية شخصية الفتوة باعتباره طاغيةً يتحكّم في الناس بالخوف، ويبتزّهم باسم “الحماية”. ومن أبرز ما عالج هذه الظاهرة:

  • فيلم “الشيطان يعظ”: حيث يظهر الفتوة في صورة رجل يتحدّث عن الأخلاق والمبادئ، لكنه يستخدمها ستارًا للقهر والهيمنة، ويبرر بطشه بعبارات الوعظ والتقوى.
  • فيلم “التوت والنبوت”: يرسم الحارة مسرحًا للصراع على الفتونة، يُورّث فيها النَّبوت كما يُورّث العرش، ويُخضع فيها الناس بقوة الذراع لا برضا القلوب.
  • فيلم “المطارد”: يُصوّر فتوة يفرض سيطرته على السوق والناس، يتعامل مع القانون بنديّة، ويستبد بالفقراء، حتى يظهر من يتصدى له في مواجهة تُعيد للحارة كرامتها.

لم تكن هذه الأعمال مجرد دراما، بل مرايا فنية لواقعٍ عايشه الناس، ولأساليب سلطة لا تُمارَس بالقانون، بل بالخوف والترويع.

ترامب.. الفتوة بربطة عنق

منذ لحظة دخوله البيت الأبيض، أعلن ترامب منطقه الجديد: “نحميكم؟ إذًا ادفعوا!”.

قال لحلفائه في الخليج: “لولا الولايات المتحدة، لما صمدتم أسبوعًا”، وطالبهم بمليارات الدولارات كثمنٍ للحماية، لا باعتبارها شراكة، بل كإتاوة مستحقّة.

وفي أوروبا، هدّد حلف “الناتو” بالانسحاب ما لم تزد مساهماتهم المالية، وكأن الحماية تحوّلت إلى “خدمة مدفوعة”، لا التزامًا استراتيجيًا.

مع الصين، فتح حربًا تجارية شعواء، ورفع الرسوم الجمركية، وأصاب الاقتصاد العالمي في مقتل.
ومع إيران، انسحب من الاتفاق النووي من جانب واحد، وفرض عقوبات قاسية دون تنسيق مع الحلفاء. بل وفي ذروة جائحة “كورونا”، انسحب من منظمة الصحة العالمية، وقطع عنها التمويل، في وقتٍ كانت فيه الدول بأمسّ الحاجة إلى التكاتف.

العالم يرقص خلف “فتوّة العصر”

كما كانت الحارة ترقص ذُعرًا خلف الفتوة، هكذا ارتبك العالم أمام ترامب. تغريدة واحدة منه تهزّ الأسواق، وتصريح مباغت يُسقط العملات، وقرارات أحادية تُربك العالم بأسره. حكومات تصمت، ومنظمات تهادن، وتحالفات تراجع نفسها كلما رفع الرجل صوته. لم يُقابَل بمنطق القانون، بل بمنطق الخوف والمصالح، تمامًا كما كانت الحارة تُذعن للفتوة خوفًا لا قناعة.

إهانة العواصم على الهواء

من أبرز ملامح “الفتونة السياسية” التي اتبعها ترامب، إصراره المتكرر على إحراج القادة والرؤساء أمام شعوبهم، بل وأمام العالم بأسره. تعمد أن يُظهرهم في هيئة الضعفاء التابعين، لا الشركاء المستقلين، سواء عبر تصريحاته المستفزة، أو أسلوبه الفج في مخاطبتهم، أو حتى طريقته الاستعراضية في استدعائهم للكاميرات، كما لو أنهم وُجهاء حارة ينتظرون أمر “المعلّم”.

لم يكن ذلك سلوكًا عفويًّا، بل نهجًا ممنهجًا لإضعاف هيبة الزعماء أمام شعوبهم، وإظهارهم بمظهر التابعين لا الشركاء.

الرئيس السيسي استثناء الكرامة في زمن التبعية

في هذا المناخ من الخضوع والتبعية، وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي موقفًا استثنائيًا يُسجَّل له في ميزان الكرامة الوطنية.

حين حاول ترامب فرض رغباته، وممارسة الضغوط لعقد لقاء مشروط، رفض الرئيس المصري أن يُعامل كرئيس تابع، وألغى زيارته للولايات المتحدة ولقاءه بالرئيس الأمريكي، إدراكًا لخطورة الانصياع، ووعيًا بمكانة مصر وهيبتها.

لم يكن القرار وليد خلافٍ دبلوماسيّ عابر، بل موقفًا مبدئيًا في توقيتٍ حرج، حيث كانت القضية الفلسطينية تُسحب نحو تصفية ممنهجة تحت مسمى “صفقة القرن”، وكان المطلوب من القاهرة أن تصمت، أو تبارك، أو تُساير… لكنها رفضت.

وقف الرئيس السيسي، لا مدفوعًا بالمزايدة، بل مدفوعًا بالمسؤولية، ليُعلن أن كرامة مصر فوق أي ضغوط، وأن حقوق الشعب الفلسطيني ليست ورقة تفاوض، بل عهدٌ لا يُفرَّط فيه، وأن مصر لا تستبدل السيادة بالمجاملة.

مواقف عنترية تكشف “النَّبوت السياسي”
    1.    التهديد العلني لدول الخليج: “ادفعوا أو تحمّلوا المصير”.
    2.    ابتزاز حلف الناتو: “الحماية مشروطة بالدفع”.
    3.    نقل السفارة إلى القدس: ضاربًا بالقانون الدولي عرض الحائط.
    4.    الانسحاب من الاتفاق النووي: منفردًا، دون اعتبارٍ للشركاء.
    5.    الحرب التجارية مع الصين: بمنطق الكسر لا التفاوض.
    6.    الانسحاب من منظمة الصحة العالمية: في ذروة الأزمة الصحية.

كل هذه المواقف تُظهر عقلية من يرى في نفسه مركز القرار، لا بصفته رئيس دولة، بل باعتباره فتوةً يحمي من يشاء، ويؤدب من يشاء، ويأخذ ممن يشاء.

ما الذي يجب أن يفعله العالم؟

لمواجهة هذا النمط من الفتونة السياسية، لا يكفي التنديد، بل لا بدّ من خطواتٍ واقعية حاسمة، منها:

  • إعادة الاعتبار للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، ومنع الدول من الاستئثار بالقرارات المصيرية.
  • تقوية التحالفات الإقليمية المستقلة، التي لا تُدار من الخارج ولا تُبتز من القوى الكبرى,
  • فرض قواعد دولية واضحة لانسحاب الدول من الاتفاقات، وتحميلها التبعات القانونية والاقتصادية.
  • توحُّد الشعوب مع قادتها في مواجهة الاستقواء الخارجي، والاحتكام إلى المصلحة الوطنية لا الخضوع للابتزاز الدولي.

وفي الختام أقول ما بين فتوة الحارة وفتوة السياسة، فارقٌ في الشكل لا في المضمون.
ذاك يفرض إتاوة مفروضة عنوة على البقال والجزار، وهذا يفرضها على الدول والأنظمة.
ذاك يُجبر الناس على الزغاريد، وهذا يُجبرهم على التصفيق.

لكن النهاية دومًا واحدة: سقوط الهيبة الزائفة حين يعلو صوت القانون والكرامة. وقد تسكت الحارة مرّة، لكنها لا تسكت إلى الأبد. وسيأتي اليوم الذي تقول فيه الشعوب للعالم: “لا طاعة لمن يحكم بالخوف، ولا مجدَ لمن يبيع الحماية بالابتزاز”.

search