
حماس وقراءة المشهد.. ما تداعيات إطلاق سراح أخر أسير أمريكي في غزة؟
في تحول لافت ضمن مسار النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، أعلنت حركة «حماس» عن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي-الأمريكي مزدوج الجنسية، عيدان ألكسندر، في خطوة وُصفت بأنها بادرة سياسية موجهة إلى إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
جاء الإعلان في ظل وضع إنساني كارثي تشهده غزة، حيث تتصاعد معدلات الجوع، ويشتد الحصار، وتتصاعد الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار، وقد أثارت هذه الخطوة تساؤلات مركزية متنوعة.
هل تسعى «حماس» من خلال الإفراج عن آخر أسير أمريكي إلى فتح قنوات تفاوض مباشر مع واشنطن، واستثمار الانقسام بين البيت الأبيض وتل أبيب؟ ما دلالات هذا الإفراج في السياق السياسي والاستراتيجي الراهن؟
كما يفتح هذا التطور الباب أمام قراءة أعمق لمسارات العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، ومدى قدرة إدارة ترامب على الحفاظ على دعمها التقليدي لتل أبيب دون خسارة قواعدها الانتخابية، في وقت تتزايد فيه المشاعر المعادية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة.
كذلك، يُعيد الحدث ترتيب أولويات الفاعلين الإقليميين، ويثير التساؤل بشأن مستقبل حكومة نتنياهو التي تواجه ضغوطاً متزايدة من الداخل، واحتمالات تصدّع ائتلافها بفعل أي تنازل في هذا الملف الحساس.
ألكسندر.. رسائل سياسية
إعلان «حماس» عن إطلاق سراح عيدان ألكسندر لم يكن مجرد إجراء إنساني، بل تحرّك محسوب يندرج ضمن استراتيجية الحركة لفتح قنوات اتصال مباشرة مع إدارة ترامب، التي تُبدي انفتاحاً على التفاوض بشأن الأسرى ووقف إطلاق النار.
ويمكن تمييز ثلاثة مستويات من الرسائل التي حرصت «حماس» على إرسالها إلى واشنطن من خلال هذه الخطوة:
أولاً، تسعى حماس إلى تقديم نفسها كطرف عقلاني يمكن التفاوض معه، قادر على اتخاذ قرارات تكتيكية دون أن يتنازل عن أهدافه الاستراتيجية، بما في ذلك تحرير الأسرى الفلسطينيين. في خضم الوضع الكارثي في غزة، أرادت «حماس» أن تظهر بمظهر الطرف المسؤول الذي يمكنه تقديم تنازلات مرحلية من موقع القوة، لا الضعف.
ثانياً، استهدفت حماس الرأي العام الأمريكي. فإطلاق سراح مواطن أمريكي في هذا التوقيت يُعد رسالة مباشرة للناخب الأمريكي، خصوصاً في ظل تزايد التعاطف الإنساني مع غزة. وتُراهن «حماس» على تخفيف حدة الانتقادات داخل الدوائر السياسية والإعلامية الأمريكية التي تصفها بأنها جهة «إرهابية»، عبر تقديم نفسها كجهة فاعلة تمارس «الدبلوماسية التفاوضية».
ثالثاً، من الناحية التكتيكية، فإن الخطوة وُظّفت لتعميق التوتر بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو، لا سيما في ظل استياء تل أبيب من اتصالات واشنطن المباشرة مع «حماس» وقد أكدت وسائل إعلام عبرية أن هذه الاتصالات تُضعف موقف نتنياهو داخلياً، وتُظهره عاجزاً عن التحكم بمجريات صفقة التبادل.
من خلال هذه المبادرة، تسعى «حماس» إلى انتزاع مكاسب سياسية وإنسانية ملموسة. فهي تراهن على أن البادرة ستحفز واشنطن على ممارسة ضغط فعّال على إسرائيل من أجل قبول هدنة طويلة الأمد أو صفقة تبادل شاملة، تتضمن الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين.
كما أن هذه الخطوة قد تُسهِم في فتح المعابر وتخفيف الحصار وإدخال المساعدات، مما من شأنه أن يُخفف الضغط الشعبي داخل القطاع، ويعزز موقع الحركة داخلياً، بالإضافة إلى ذلك، تراهن «حماس» على أن استعدادها للتفاوض المباشر مع إدارة أمريكية جمهورية قد يُضعف ائتلاف نتنياهو، خصوصاً إذا تطورت الأمور نحو تنازلات ملموسة لا تلقى قبولاً من شركائه في أقصى اليمين.
سعي ترامب للوساطة
المبادرة الأمريكية للوساطة، والتي تتصدرها إدارة ترامب، تحمل في طياتها مزيجاً من الدوافع الاستراتيجية والاستجابات للضغوط الداخلية، فعلى المستوى الاستراتيجي، تدرك واشنطن أن استمرار التصعيد في غزة يُهدد بجرّ المنطقة إلى مواجهة إقليمية واسعة بما يُعرض المصالح الأمريكية للخطر.
كما أن نجاح ترامب في الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار يعزز صورته كقائد قادر على فرض الاستقرار، ويمنحه نقاطاً دبلوماسية في مواجهة النفوذ الروسي والصيني المتنامي في المنطقة، لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل حجم الضغوط الداخلية التي يواجهها ترامب.
فالرأي العام الأمريكي يشهد تحولات واضحة تجاه القضية الفلسطينية، مع تنامي الأصوات الناقدة للدعم غير المشروط لإسرائيل، حتى داخل الحزب الجمهوري، كما أن وجود رهائن أمريكيين لدى «حماس» شكّل دافعاً قوياً لتحريك عجلة التفاوض، استجابةً لعائلاتهم ومطالبهم المتصاعدة.
وتُعد الوساطة فرصة لترامب لتعزيز موقعه الانتخابي داخلياً، عبر الظهور بمظهر الزعيم الذي يُنقذ الأرواح ويحقق اختراقاً دبلوماسياً في أحد أعقد الملفات الدولية.
دعم نتنياهو المكلف
يتزايد التحدي أمام ترامب في ما يتعلق بتقديم دعم غير مشروط لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فقد أظهرت استطلاعات حديثة تراجع التأييد الشعبي للسياسات الإسرائيلية، خصوصاً في ظل التقارير الأممية حول المجاعة والانهيار الصحي في غزة.
وهذا التحول في المزاج العام لا يقتصر على الناخبين الديمقراطيين، بل يشمل أيضاً شرائح داخل الحزب الجمهوري، لا سيما بين الشباب والتيارات الشعبوية اليمينية التي تركز على القضايا الأمريكية الداخلية.
من هذا المنطلق، فإن الاستمرار في دعم نتنياهو دون مراعاة للبعد الإنساني قد يُعرّض ترامب لخسارة دعم دوائر انتخابية مهمة، ويضعه في موقف حرج أمام الكونجرس المقبل، كما أن هذا الدعم قد يُثير استياء حلفاء إقليميين رئيسيين مثل السعودية وقطر، اللتين تؤيدان التهدئة وتسعيان لتقليل التداعيات الإنسانية الكارثية.
لذلك، من المرجح أن يتبنى ترامب نهجاً براغماتياً، يجمع بين الحفاظ على الدعم العسكري التقليدي لإسرائيل وبين الضغط عليها للقبول باتفاق يُراعي الحد الأدنى من المطالب الإنسانية والدبلوماسية.
التحركات الأمريكية إقليميا
الضغط الأمريكي على إسرائيل لوقف التصعيد العسكري يُفسّر إقليمياً على مستويين، بالنسبة للدول العربية، خاصة وسطاء التفاوض، فإن الضغط يُعد انتصاراً للدبلوماسية، ويؤكد فاعلية القنوات السياسية في تحقيق تهدئة ميدانية، كما أن نجاح ترامب في التوصل إلى وقف إطلاق نار يعزز من مكانته كضامن للسلام، ويُعيد رسم صورته أمام الرأي العام العربي.
في المقابل، قد يُنظر في الداخل الإسرائيلي إلى الضغوط الأمريكية على أنها تخلي عن الحليف التقليدي، وتزداد هذه النظرة قتامة لدى أوساط اليمين المتطرف الإسرائيلي وبعض الدوائر الجمهورية في أمريكا، التي ترى في أي ضغط على تل أبيب تراجعاً عن القيم «الأطلسية» المشتركة.
وفي اليمن ولبنان، قد تُفسَّر الضغوط الأمريكية على أنها نجاح لمحور المقاومة في كسر هيبة الردع الإسرائيلي، وفرض قواعد اشتباك جديدة تُقيّد تل أبيب وتدفع واشنطن إلى تبني خيارات دبلوماسية أكثر توازناً.
الضغط الخارجي وتداعياته
يعيش ائتلاف نتنياهو حالة من الهشاشة السياسية غير المسبوقة، تتجلى في تهديدات قادة اليمين المتطرف بالانسحاب في حال قَبِل نتنياهو بوقف طويل لإطلاق النار أو باتفاق تبادل شامل. وتُمثّل احتجاجات عائلات الأسرى الإسرائيليين ضغطاً إضافياً، يضع رئيس الحكومة في مواجهة مع جمهوره وقاعدته السياسية.
وفي هذا السياق، يُمكن للضغط الأمريكي أن يُسرّع من تفكك الائتلاف الحاكم، لا سيما إذا طالب ترامب بتنازلات يرفضها شركاء نتنياهو العقائديون. وقد تقود هذه التطورات إلى انتخابات مبكرة، تشير الاستطلاعات إلى أنها لن تكون في مصلحة حزب الليكود. كما أن المعارضة، بقيادة شخصيات مثل بيني جانتس، قد تستثمر الضغط الدولي لتقديم نفسها كبديل أكثر توازناً يُراعي البعد الإنساني ويعيد ترميم صورة إسرائيل دولياً.
وفي حال ظل نتنياهو في السلطة، فإن الضغط الأمريكي قد يُفضي إلى تعديل تكتيكي في السياسات الإسرائيلية، يتمثل في القبول بمرحلية اتفاق الهدنة أو تسهيلات إنسانية مؤقتة، من دون تغيير جوهري في النهج العسكري. إلا أن قدرة نتنياهو على المناورة تظل محدودة، في ظل تصاعد النقمة الشعبية وتقلص الخيارات السياسية.
خطوة متعددة الأبعاد
يمثل إطلاق حماس لسراح الجندي عيدان ألكسندر خطوة استراتيجية متعددة الأبعاد، تُظهر قدرة الحركة على توظيف ورقة الأسرى لتحقيق مكاسب سياسية وإعلامية، وتكشف عن انفتاح تكتيكي على التفاوض مع واشنطن. وفي المقابل، يجد الرئيس ترامب نفسه في موقف دقيق، يحاول من خلاله الجمع بين حماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية وامتصاص الضغوط الداخلية المتزايدة.
أما نتنياهو، فيواجه مأزقاً سياسياً مركباً، يتراوح بين هشاشة ائتلافه الحاكم وتزايد الانتقادات الدولية لسياسته في غزة. ويبدو أن أي ضغط خارجي جاد من واشنطن قد يُسرّع من انهيار التوازن الداخلي في إسرائيل، ويفتح الباب أمام انتخابات مبكرة أو تعديلات في المسار السياسي، وإن كانت محدودة.
وفي جميع الأحوال، تُعد هذه التطورات مؤشراً على حالة جديدة تتشكل في المنطقة، يكون للعنصر الإنساني فيها دور حاسم في إعادة ترتيب التحالفات وتوجيه مسارات الصراع.

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
محطات التوتر بين مصر وإسرائيل إلى أين؟.. سيناريوهات القاهرة وتل أبيب
10 مايو 2025 07:04 م
أكثر الكلمات انتشاراً