
إعلان اتصالات .. بطل من ورق | خارج حدود الأدب
في مشهدٍ ليليٍّ عبثي، أنهى دوامه الذي أنهكه واستنفد كل طاقاته، وخرج بخطواتٍ ثقيلة، يتحسس المقهى الذي يلتقي فيه بعضًا من أصدقائه ليقتل ملل ورتابة اليوم ببعض السمر والنكات، ويلوك بعض الشطائر التي تئد جوعه، وبالطبع كوب من الشاي ليمنحه بضع ساعات سهرٍ إضافية قبل أن ينام استعدادًا للعودة إلى دوامه من جديد. كان هذا المشهد المعتاد، ولكن في تلك الليلة كان هناك عامل جديد، يضفي على المشهد الحماسة والقلق والمتعة، بل يدعو غدده الكظرية لإفراز الكثير من الأدرينالين. ففي تلك الليلة مباراتان هامتان لحسم لقب الدوري المشتعل، وصديقنا الآن يجلس على مقاعد السماوي يدعم ويصفق ويهتف أملًا في تعثّر الأحمر، فماذا يفرح أي زملكاوي أكثر من تعثّر الأحمر؟ والعكس صحيح.
وكانت الليلة قد أفضت بأسرار جعلت صديقنا في قمة الأمل والسعادة، ولكن، وهي في النزع الأخير، أبت أن ينام صديقنا سعيدًا، فكان للأحمر رأيٌ آخر فيما بعد انتهاء الوقت بدل الضائع كعادته، وتجلّت في أنحاء المقهى الكلمات المعتادة (زا ماصطر أوف صاصبنز)، إيذانًا ببدء ليلةٍ طويلةٍ من التحفيل، وفيضٍ لا ينتهي من الرسائل الساخرة من الأصدقاء الأهلاويين.
فأغلق صديقنا هاتفه، وقرّر كعادته في مثل هذه الأوقات الاختباء في العزلة، وذهب إلى بيته يعتصره الحزن، واعتصر هو بالتبعية همومه على السرير قبل أن يضرب المنبّه إيذانًا بإشراق دوامٍ طويلٍ جديد. ذهب إلى عمله على عجل، ولكن الأجواء لم تكن على حالها من الهدوء، لم يُبالِ ولم يلتفت، على الرغم من بعض النظرات المريبة التي كانت تلاحقه. جلس على مكتبه، وضع السماعة على أذنه، وبدأ دوامه باستقبال أولى المكالمات: أهلاً وسهلاً يا فندم، معاك أحمد من خدمة عملاء إي آند، إزّاي أقدر أساعد حضرتك النهارده؟
هنا يُسدل الستار على أكثر مشهدٍ عبثي قد تراه في حياتك. فتعلم، عزيزي القارئ، ما دار وما حدث في تلك المكالمة من زملكاوي آخر، صوّر له البعض إعلان شركة الاتصالات على أنه إهانة للكيان، وأن عليهم جميعًا الانتفاض لنصرته. هنا يتصوّر هذا الشاب أنه البطل، فانتفض لنصرة قضيته بأن يكيل السباب لصديقنا الزملكاوي الأول في خدمة العملاء، ويخوض في الأعراض والأغراض، دون خوفٍ من محاسبة أهل الأرض ولا اعتبارٍ لحساب أهل السماء، ليُصبح مجرد بطلٍ من ورق، لا يُدرك أن ضحيته على الطرف الآخر من الخط ربما زملكاوي مثله أو أكثر، أو ربما صديقه أو ربما هي أخته، أو أيّ شخص غير معنيّ بالقصة على الإطلاق. وهنا يأتي السؤال: بأي منطق؟
ولسنا هنا في مقام الحديث عن الإسقاط ومدى مصداقية الادّعاء به، ولا عن شكل عربة الإسعاف الحقيقي والمزيّف، ولكننا هنا نتكلم عن السقوط، سقوط المجتمع في فخّ التعصّب الأعمى، سقوط أنصار الأبيض في آتون المؤامرات الكونية لتدمير الكيان، وسقوط أنصار الأحمر في شرك ذات المؤامرة بترويج ادّعاءاتها أو حتى بتصديقها.
والرابح الأكبر هنا كانت شركة الاتصالات بالتأكيد، فأنا على يقين أن مدير التسويق المسؤول عن إخراج هذا الإعلان يجلس الآن بزهوٍ شديد، يجني حصاد نجاحه غير المسبوق، إعلان عُرض فقط لبضع ساعات قبل أن يُحذف، إلا أنه أصبح حديث مائة مليون شخص في ساعاتٍ قليلة، بل إن صوره ومقاطعه تداولت في ساعاتٍ ملايين المرّات على الرغم من حذفه، وأي نجاحٍ آخر يُنتظر؟
ومن مقعد المشاهد على المقهى، ترى الجماهير من الطرفين هي الحطب الذي يحترق بلا هدف، وعلى التلفاز والمنصّات رؤوس الفتنة الحقيقيين، يسكبون الوقود فوق النار، بلا ضمير ولا علم ولا حدّ أدنى من الثقافة، فهذا متحدث باسم قلعة ما، يعمل في ذات الوقت إعلاميًّا، ولا أدري ربما يعمل شيئًا آخر في آخر الليل، يظهر في بدلته المنمّقة، ليتفاخر بأن أخاه كال السباب والإهانات لموظف خدمة عملاء بسيط، وآخر يدّعي أنه عالميّ، يدعو لمقاطعة عامة، ويحترق الناس في آتون الفتنة والتعصّب، بسبب جهل تلك النماذج.
وسواء كان الإسقاط صحيحًا أم لا، وكانت شركة الاتصالات قد تعمّدت الإساءة لكيانٍ ما، أو أن هذا كله كان من قبيل المصادفة، فلماذا يكون على رأس بعض أنصار هذا الكيان العظيم "بطحة" يتحسّسونها عن عمد؟ أَوَليس الصمت والترفّع من شِيَم القلاع الكبيرة؟ لماذا يسقط البعض إذن في الفخ؟ وإن كان هذا سلوك قادة الإعلام والمؤثرين من رواد المنصات، أما آن الأوان للمجتمع أن يلفظ هؤلاء؟ أما آن للقنوات والمنظمات تنظيفها من الجهل والخبث ومروّجي الفتن؟ وإن كان المجتمع في حاجةٍ إلى حذف إعلان اتصالات، فهو في حاجةٍ أمسّ إلى إقصاء "المتحدث" و"العالمي" ومن على شاكلتهم من الجانبين من المشهد قبل أن يخرج الجماهير "خارج حدود الأدب".

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة
وعد بلفور.. وحرب كشمير | خارج حدود الأدب
10 مايو 2025 09:03 م
"إيه سفن إيه"... يا كورة |خارج حدود الأدب
14 أبريل 2025 01:47 م
(زيادة) ناقصة .. و(غالي) رخيص | خارج حدود الأدب
07 أبريل 2025 01:52 م
حينما (سارتر) مصطفى غريب في رمضان | خارج حدود الأدب
25 مارس 2025 01:19 م
أكثر الكلمات انتشاراً