السبت، 09 أغسطس 2025

06:03 ص

سامح مبروك
A A

بيلا حضر.. وجرينديزر شَكَر | خارج حدود الأدب

في ظل الأنباء المتواترة عن الحملات الأمنية المكثفة لتطهير فضاء منصات التواصل الاجتماعي من الخبث والخبائث، كانت تلك الأحداث محل حوار بيني وبين صديق يعمل بموقع مرموق على رأس الشرق الأوسط لصالح واحدة من أهم شركات صناعة وتجارة شاشات الكمبيوتر. 

وفي خلال الحديث عن ذلك الزخم المثار حول تغوّل النفوذ والفلوس والشهرة لظاهرة البلوجرز والتيك توكرز والإنفلونسرز وصنّاع المحتوى والمؤثرين، وتلك المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا علم لها بشريًّا تبيان، فاجأني صديقي بقصة صادمة، ملخّصها أنهم في شركته، أثناء محاولة الترويج لإحدى شاشاتهم الجديدة، والتي تُعد مخصصة للألعاب الإلكترونية عالية الجودة، تواصلوا مع أحد "صناع المحتوى" المصريين المهتمين بمجال التكنولوجيا والألعاب. 

عرض عليه مسؤولو التسويق بالشركة إهداءه تلك الشاشة التي تصل قيمتها إلى حوالي 400 دولار أمريكي، في مقابل تقييمه للشاشة في أحد فيديوهات "Unboxing" الشهيرة، والتي لا تتخطى مدتها الدقائق، ولم تمانع الشركة أيضًا في صرف مبلغ مالي محدود إن تطلب الأمر، إلا أنهم فوجئوا بطلب "صانع المحتوى" هذا مبلغًا قدره 8000 دولار أمريكي بالإضافة إلى الشاشة، فشكر له صديقي رده، وتم التراجع عن الفكرة من الأساس.

لم أنتبه بعدها لتتمة الحديث، بل غرق عقلي في فيضان من الأرقام والتساؤلات: نصف ساعة بنصف مليون جنيه! لماذا؟ ومادام "صانع المحتوى" هذا يتحدث عن العملية كأنها تجارة وعمل مشروع؛ فهل يدفع ضرائب لهذه الأموال؟ وماذا لو روّج مواد أو منتجات رديئة أو خطيرة؟ ماذا لو دُفع له لترويج أجندات أو أفكار مشبوهة أو مسمومة؟ هل يخضع هذا المحتوى لأي رقابة أو تقييم؟ سيل من التساؤلات بلا إجابات.

وعلى طريقة مخرجي السينما، حاولت الرجوع بالكاميرا للخلف ببطء، بعيدًا عن بطل الحكاية السابقة، وتوسيع الكادر قدر الإمكان. وفي اللحظة الأولى قفز إلى صدارة المشهد، بلا دعوة ولا إنذار، ذلك "البيلا"، وهو صنف آخر من أصناف الترويج الحديثة ولكن بالاستفزاز والافتعال والكثير من الانفعال، ليضيف إلى المسميات السابقة في الفقرة الأولى مسمى أغرب: "فود بلوجر"، وهي مهنة الكروش والقروش، شخصيات تعتقد أن الله قد حباها بخلايا حسية في اللسان تفوق شبيهاتها عند باقي البشر، وأيضًا تستطيع أن تقول مفردات بمعانٍ فريدة مثل "Juicy". وفي مقابل تلك الإمكانات العظيمة، يبتزّون أصحاب المطاعم ليملؤوا كروشهم بالمجان، وربما يتحصلون في كثير من الأحيان على حفنة من القروش.

ولكن عند فتح الكادر على اتساعه، قد تفاجأ من هول المنظر وهذا الكم من المخاطر التي تهدد السلم الأخلاقي والاقتصادي للمجتمع، وقد تتلخص الأمثلة – دون أن تقتصر – على الآتي: "ورقة وقلم ومعايا يا ست الكل":

الإنفلونسرز: أمثال صديقنا في الحكاية الأولى، ممن يتربحون من الترويج لمنتجات أو محلات أو خدمات بلا سجل ضريبي، وبلا رقابة من أي جهة على المحتوى.

الفود بلوجرز: تلك المهنة الدميمة، التي تحاكي خطيئة الشره بكل تفاصيلها في الديانة المسيحية، ويتربح أيضًا أصحابها من ورائها دون الخضوع لأي رقابة ضريبية.

يوتيوبرز كرة القدم: وتلك مهنة تتطلب الخيال الواسع والحنجرة الجهورية، والكثير من الهبد والتوابل، لاختلاق الأكاذيب. وهي واحدة من المهن المنتشرة بكثرة، يتربح أصحابها من المشاهدات بلا رقابة مالية، ويستغلون شغف البسطاء من مشجعي كرة القدم في افتعال الفتن بلا رقابة أخلاقية أو صحفية على المحتوى.

بيوت الدعارة الإلكترونية: فلا تقتصر مصائب التيك توك على السفه والتفاهة والانحطاط، بل تمتد إلى كونها منصة تنضح بمروّجي العهر والفحش وتجارة اللحم الرخيص. ولا يقتصر هذا المجال على تلك المنصة وحدها، بل يمتد إلى منصات ومواقع أكثر خطورة وأضعف في الرقابة، يعرفها مستخدموها جيدًا، وتعرفها أجهزة الشرطة بالتأكيد. وهذا النشاط – أياً كانت منصاته – محرم دينًا ومجرّم قانونًا.

الفن الهابط: فلا يستطيع أن ينكر كل ذي بصيرة كيف انتقلت السفاهة وأبطالها من التيك توك إلى شاشات التلفزيون والسينما. فكل عام تعج القنوات التلفزيونية، في رمضان وغيره، بالمسلسلات الرخيصة – رخيصة القيمة والمحتوى – التي تسوّق لشخصيات وأخلاقيات ينكرها بل يحتقرها المجتمع ككل، وعلى غرار ذلك السينما القائمة على الإيحاءات والإسفاف. حتى الغناء لم يسلم من السفاهة والترويج لها.

إعلام الفتنة: فكم من مرة وجدتَ المتهمين حاليًّا في قضايا التيك توك أبطال حلقات تلفزيونية على قنوات يتابعها الملايين، بل يقوم الإعلامي بتقديم هذه الشخصيات وكأنهم أبطال خارقون، والهدف الوحيد هو الريتش والترند، بغض النظر عن قيم المجتمع أو ميثاق العمل الإعلامي. وكذلك إعلام التسخين والتدليس بنشر أخبار مغلوطة وقصص مختلقة، ونشر الفتن والاستقطاب في المجتمع والرياضة وكافة المجالات.

البودكاست: وتلك ظاهرة جديدة تستدعي الكثير من التأمل، لأنها لا بد أن تقوم على فكرة ومحتوى. إلا أن ما يملأ الساحة فيها حاليًّا ضجيج أواني فارغة.

ويظل القوس مفتوحًا على اتساعه، وتبقى المهمة صعبة للغاية؛ مهمة دولة ومجتمع وشعب، بل مهمة أمة: دولة تحارب الفساد والكسب غير المشروع والانحراف عن القوانين، مجتمع يحارب السفاهة والانحلال من أجل قيمه وأخلاقياته، شعب يطالع أجيالًا جديدة صوّرت لهم وسائل التواصل التفاهة والبطالة على أنها عمل مربح بل خارق، أمة تسعى للرقي بالعلم والعمل.

وخلافًا لتعدد المشاكل وكثرتها وتنوعها، تبقى الحلول الناجعة مركزة ومحدودة في الآتي:

سن القوانين التي تحاكم وتحكم ذلك الفضاء الإلكتروني أخلاقيًا وماديًا.

السيطرة الكاملة، بالحظر أو بالحجر، على المنصات المشبوهة.

تطوير مناهج التعليم بالشكل الذي يجابه ذلك الغزو الإلكتروني الخطير.

دعم وتوجيه المؤسسات الإعلامية والفنية والثقافية للعمل بالكفاءة الكاملة لنشر الوعي ومحاربة الرخص.

الرقابة المجتمعية والأسرية على استخدام ومتابعة تلك المنصات.

بهذا، تكون المسؤولية شعبية مشتركة في مواجهة واحد من أخطر حروب الجيل الخامس التي نواجهها في هذا العصر، ويجب على كل العناصر الفاعلة في المجتمع التضافر من أجل إنقاذ الجيل الجديد، قبل أن يقع في براثن تلك الفتن المهلكة، فنفاجأ بشباب الغد يهربون "خارج حدود الأدب".

ومادمت قد وصلت لقراءة هذه السطور، فربما ما زلت تتساءل: ما علاقة جرينديزر بالمقال؟ إذا كنت مهتمًّا لهذا الحد، راجع قراءة الفقرتين الأولى والثانية.

search