
عيد الجلوس الملكي.. رؤى وطموحات للأردن
منذ أن تَسلَّم جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين سلطاته الدستورية عام 1999، أظهر قدرة فذّة على استشراف المستقبل وتفكيك ملامح التحولات الإقليمية والدولية قبل أن تقع، لم يكن صوت جلالته يوما إلا استباقيا، حيث حذّر مبكرا من تنامي نفوذ ما عُرف بـ"الهلال الشيعي"، ونبّه إلى خطورة إهمال معالجة الأزمات السياسية في مهدها قبل أن تستفحل وتتحول إلى نزاعات عابرة للحدود.
وكان جلالته من أوائل القادة الذين دقّوا ناقوس الخطر بشأن أزمة الأمن الغذائي العالمي، وأكد على أن القادم يحمل تحديات لا تقل فتكا عن الحروب، ما لم تُتخذ الخطوات الكفيلة بتحصين المجتمعات من الداخل، و من هذه الرؤية العميقة شقّ الأردن طريقه في ظل قيادة ملكية استثنائية وضعت أمامها هدفا واضحا تلخص بضرورة بناء دولة متماسكة وقادرة على الصمود في وجه التحديات الإقليمية والدولية، وقائمة على تنمية شاملة ومستدامة تنطلق من الإنسان وتسعى لحمايته فكريا واقتصاديا وصحيا وأمنيا.
انطلقت الاستراتيجية الملكية ببُعدها العميق من الإيمان بأن التعليم هو الحصن الأول في مواجهة أي اختراق ثقافي أو فكري خارجي، وخاصة لفئة الشباب والتي تشكل العمود الفقري لأي نهضة مستقبلية، فعملت الدولة على تطوير منظومتها التعليمية عبر تحديث المناهج وتأهيل المعلمين وتوسيع البنية التحتية، لنصل اليوم إلى إنجاز يُعد مفخرة بكل المقاييس، إذ بلغت نسبة الأمية بين الشباب الأردني 0.08% فقط، وهي من أدنى المعدلات في العالم وتضع الأردن في الصدارة إقليميا، وفي طليعة الدول عالميا في محاربة الأمية، بما يعكس وعيا وطنيا بأن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان.
ولم يتوقف جلالة الملك عند حدود بناء الإنسان معرفيا، بل مضى قدما نحو تعزيز أمنه الغذائي كركيزة للاستقرار الوطني في عالم بات الغذاء فيه سلاحا يوازي في خطورته البندقية، فجرى تشجيع الزراعة المحلية ودعم الصناعات الغذائية ما أسفر عن زيادة ملحوظة في الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، بل وتحقيق فائض تصديري قُدّر بما يزيد عن 1.5 مليار دولار سنوياً، لقد أعادت هذه الاستراتيجية الاعتبار للأرض، فكانت الزراعة سياسة دولة وليست مجرد قطاع اقتصادي تقليدي.
وتجلّى حرص جلالته على الأمن المجتمعي في بعده الصحي من خلال توسيع مظلة التأمين الصحي لتشمل أكثر من 72% من المواطنين، وتوفير رعاية صحية مجانية للأطفال دون سن السادسة وكبار السن فوق الخامسة والستين، ما يعكس التزام الدولة بمبادئ العدالة الصحية وحماية الفئات الأضعف، ولم تكن هذه الجهود نظرية أو ارتجالية بل استندت إلى بنية تحتية طبية حديثة وكوادر بشرية مدرّبة، وسياسة دوائية صنعت من الأردن مركزا إقليميا لصناعة الأدوية، إذ تُصدّر المملكة اليوم أكثر من 4500 زمرة دوائية إلى الأسواق العالمية، وتحظى المنتجات الدوائية الأردنية بأرفع شهادات الجودة مثل اعتماد إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) والوكالة الأوروبية للأدوية (EMA) وشهادة الممارسات التصنيعية الجيدة (GMP)، في وقت امتلكت فيه شركات أردنية مصانع ومراكز أبحاث في الخارج، وبلغت قيمة الإنتاج الدوائي الوطني نحو 2.3 مليار دولار، ما يجعل من الأردن رقما صعبا في معادلة الصناعة الدوائية إقليميا.
وفي موازاة ذلك، كان لا بد من تعزيز الأمن الوطني من خلال تطوير القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وإطلاق منظومة متقدمة من الصناعات الدفاعية التي باتت تصدّر إلى الخارج وتحقق قدرا من الاكتفاء الذاتي للقوات المسلحة و الأجهزة الأمنية، فقد استثمرت الدولة في التكنولوجيا العسكرية والتدريب النوعي، وتمكنت من تعزيز قدرة المملكة على حماية حدودها والتعامل مع التهديدات الإقليمية المعقدة بكفاءة عالية، ما رسّخ موقع الأردن كواحة استقرار في محيط مضطرب.
وفي خضم هذا البناء المتكامل أدرك جلالة الملك أن التنمية لا تتحقق دون شراكة فاعلة مع القطاع الخاص، فعمل على تحرير هذا القطاع من القيود البيروقراطية، وجعله شريكا حقيقيا في النمو الاقتصادي، وفي هذا السياق يشهد التاريخ الاقتصادي للأردن تحوّلا مذهلا، ففي عام 1999 بلغت نسبة الائتمان المقدم للقطاع الخاص 71% من الناتج المحلي الإجمالي، بقيمة تقارب 6 مليارات دولار، أما في عام 2023 فقد قفزت هذه النسبة إلى 82% من الناتج المحلي، وبقيمة بلغت نحو 42 مليار دولار، أي بمعدل نمو تجاوز 600% وهذا النمو يعكس ليس فقط توسع القاعدة الإنتاجية بل ثقة الدولة في ديناميكية القطاع الخاص وقدرته على دفع عجلة التنمية، وهو ما تُرجم فعليا في زيادة الاستثمار وتنوعه وخلق فرص العمل وتحقيق عوائد اقتصادية ملموسة.
وفي سياق المؤشرات الكلية، شهد الاقتصاد الأردني نموا ملحوظا على مدى العقدين الماضيين، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من نحو 8 مليارات دولار عام 1999 إلى أكثر من 51 مليار دولار عام 2023، أي بنسبة نمو تجاوزت 525%. كما نما حجم الادخار المحلي من 2 مليار إلى 8 مليارات دولار، بنسبة زيادة تُقدّر بـ305%، وهو ما يدل على تصاعد قدرة الاقتصاد الأردني على خلق فوائض مالية يعاد ضخّها في مشاريع تنموية، و هذه الأرقام تحققت في ظل الحفاظ على معدلات تضخم منخفضة نسبيا و لم تتجازو 2% في معظم السنوات، الأمر الذي يعطي انطباعا بأن الزيادة الحاصلة هي زيادة حقيقية و ليست مجرد أرقام مضخمة، و هذا بدوره عزز من الثقة في السياسات الاقتصادية وأسس بيئة استثمارية مستقرة.
أما على صعيد الاستثمار الأجنبي المباشر، فقد شهد قفزة نوعية إذ نما بأكثر من 700% بين عامي 1999 و2022، ما يعكس جاذبية البيئة الاستثمارية الأردنية وقدرة الدولة على استقطاب رؤوس الأموال رغم التحديات الإقليمية والدولية، كما لم تغفل الرؤية الملكية جانب الإصلاح السياسي، الذي ترجم إلى حياة برلمانية أكثر انفتاحاً، حيث شهد المجلس الأخير مشاركة حزبية كبيرة و متنوعة في ظل تخصيص عدد كبير من المقاعد للقواعد الحزبية، وهو ما أعطى دفعة قوية لمسيرة الإصلاح السياسي ودعم منظومة التحديث الإداري والقانوني.
لم يكن الأردن في عهد جلالة الملك عبد الله الثاني مجرد دولة صغيرة تتأقلم مع محيطها، بل بات نموذجا تنمويا متكاملا يجمع بين الحكمة السياسية والرؤية الاقتصادية والاستثمار في الإنسان، والحفاظ على الكرامة الوطنية في وجه العواصف، إن تجربة الأردن المستندة إلى استشراف المستقبل والعمل المدروس، تُمثل اليوم مرجعا في كيف تُبنى الدول بالثقة، وتُصان السيادة بالإصلاح، ويُصنع المجد بالإرادة.

الأكثر قراءة
-
حظك اليوم الجمعة 13 يونيو 2025.. نار الحماس جاهزة للاشتعال
-
هارب من 228 حكما قضائيا.. القبض على رئيس الشركة المتحدة للصيادلة
-
زيادة جديدة في أسعار الذهب.. 65 جنيها مرّة واحدة
-
رسميا.. رابط نتيجة الصف الثالث الإعدادي كفر الشيخ الترم الثاني
-
"قوة الأسد".. ماذا يحدث بين إيران وإسرائيل.. وما موقف أمريكا؟
-
نتيجة الصف الثالث الإعدادي محافظة المنيا 2025
-
مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 13 يونيو 2025
-
ليلة هجوم إسرائيل على إيران.. ماذا حدث فجرا وما موقف طهران؟
أكثر الكلمات انتشاراً