
لماذا يُصغي العالم إلى مصر الآن؟
لم يكن اعتراف فرنسا مؤخرًا بدولة فلسطينية، ومن خلفها التوجه الجديد في بريطانيا بقيادة زعيم حزب العمال كير ستارمر، وليد الصدفة أو نتيجة ظرف دولي مؤقت، بل جاء تتويجًا لتحرك دبلوماسي عربي قادته مصر بإصرار وحنكة سياسية.
لقد عملت القاهرة على إحياء الموقف الدولي تجاه الحقوق الفلسطينية، واستطاعت أن تفرض على الساحة الأوروبية خطابًا سياسيًا جديدًا لم يعد يقبل الصمت أمام الجرائم الإسرائيلية، ولا غضّ الطرف عن مأساة الشعب الفلسطيني الممتدة منذ أكثر من سبعين عامًا.
منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر الماضي، لعبت مصر دور الوسيط الأبرز بين الأطراف، مع حفاظها على التوازن الدقيق بين العمل الإنساني والدبلوماسية الدولية. لكن الأهم من ذلك، أن القاهرة أعادت القضية الفلسطينية إلى المربع الأول: الحديث عن الحقوق الوطنية المشروعة وليس فقط التهدئة، عن حل الدولتين وليس فقط وقف إطلاق النار، وعن الاعتراف بفلسطين وليس فقط منحها مساعدات غذائية وطبية.
وقد أثمرت هذه الرؤية في تليين المواقف الأوروبية. فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي لطالما تبنى خطابًا متوازنًا تجاه إسرائيل، وجد نفسه تحت ضغط أخلاقي وسياسي داخلي وخارجي، خاصة مع تنامي الموقف الشعبي المؤيد لفلسطين داخل فرنسا، ونجاح الدبلوماسية المصرية في تنسيق المواقف العربية.
نقطة تحول
لعبت زيارة الرئيس ماكرون إلى القاهرة ورفح في بداية العام دورًا محوريًا في تغيير الموقف الفرنسي من القضية الفلسطينية. فقد كانت زيارة غير اعتيادية، إذ أصرّ ماكرون على التوجه إلى معبر رفح بنفسه، وشاهد بأم عينيه حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزة، رغم الجهود الإغاثية الكبرى التي تقودها مصر.
وقد حرص الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال اللقاء الثنائي، على تقديم رؤية مصر الكاملة لحل الصراع، مؤكدًا أن الأمن لا يتحقق بالقوة وحدها، بل بالعدالة، وأن استقرار الشرق الأوسط يبدأ من الاعتراف بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو 1967.
القيادة العاقلة في زمن الغليان
لقد لعب الرئيس عبد الفتاح السيسي دورًا محوريًا واستراتيجيًا في صياغة هذا التحول الأوروبي. فمنذ بداية الحرب، لم تتوقف القاهرة عن المبادرات السياسية، واستقبال الوفود الدولية، وتقديم الرؤية المصرية المبنية على احترام القانون الدولي، ورفض التهجير القسري، والتأكيد على أن الحل العادل هو الحل السياسي لا الأمني.
وفي خطاباته الدولية، كان الرئيس السيسي واضحًا: "فلسطين ليست مجرد أزمة إنسانية، بل قضية احتلال". وهذه الرسالة وجدت صدى واسعًا في دوائر القرار الأوروبية، التي باتت مقتنعة اليوم أن تجاهل حل الدولتين سيؤدي إلى فوضى دائمة في المنطقة.
أما بريطانيا، صاحبة التاريخ الأكثر تعقيدًا وتورطًا في تأسيس الكيان الإسرائيلي، فإن تغير خطابها يمثل زلزالًا سياسيًا حقيقيًا. منذ وعد بلفور في 1917، مرورًا بدور رئيس وزرائها دزرائيلي في تمكين الحركة الصهيونية، واحتلالها لمصر وفلسطين كمركز نفوذ استعماري، ظلت لندن تُمثّل في الوجدان العربي عنوانًا للنكبة وحرمان الفلسطينيين من وطنهم.
اليوم، وبينما تستعد حكومة حزب العمال للعودة إلى الحكم، يخرج زعيم الحزب كير ستارمر بتصريح واضح يعد فيه بالاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية بحلول سبتمبر. قد يبدو ذلك للبعض تحولًا انتخابيًا، لكنه في الحقيقة يعكس تغيرًا أعمق في المزاج السياسي البريطاني، ناتج عن تآكل الدعم الأعمى لإسرائيل، وانتفاض قطاعات واسعة من المجتمع البريطاني رفضًا للحرب على غزة، مدعومين بتحولات دبلوماسية دولية قادتها مصر والدول العربية المؤثرة.
في المقابل، تعيش إسرائيل أزمة دبلوماسية خانقة، ربما هي الأخطر منذ عقود. فاعتراف دول مثل النرويج وإيرلندا وإسبانيا، وتوالي الحديث عن اعترافات أوروبية جديدة، لا يُمثل فقط تقويضًا للرواية الإسرائيلية، بل يُعيد صياغة الشرعية الدولية من جديد.
إن تعنت حكومة نتنياهو، وارتكابها جرائم حرب في غزة أمام عدسات العالم، جعل حتى أقرب حلفائها في الغرب محرجين من الدفاع عنها. ووسط هذا المشهد، تلعب مصر دورًا محوريًا في دفع العالم نحو هذا التغيير، ليس فقط من خلال التصريحات أو المبادرات، بل عبر حشد إرادة عربية جماعية وفرضها على الطاولة الدولية.
قد يتساءل البعض: لماذا يُصغي العالم إلى مصر الآن؟ الجواب ببساطة، لأن القاهرة لا تتحدث فقط باسم فلسطين، بل باسم الاستقرار الإقليمي، وتقدّم نفسها كقوة عقلانية تمتلك علاقات متوازنة مع الجميع، من واشنطن إلى موسكو، ومن طهران إلى تل أبيب. ومع كل زيارة لوزير الخارجية المصري، وكل خطاب للرئيس السيسي، يتشكل توازن جديد يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية.
إن الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين ليس نهاية الطريق، بل بداية جديدة، ولكن الفضل الأول في تحريك هذا المسار التاريخي يعود لمصر، التي تؤكد اليوم أنها ما زالت قلب العروبة النابض، وعقلها الدبلوماسي الحاسم.

الأكثر قراءة
-
دفاع ابنة مبارك المزعومة: طلبنا أخذ عينة DNA من جمال وعلاء
-
مصدر بالتأمينات: صرف المعاشات قد يبدأ مساء اليوم عبر بعض البنوك
-
ماذا قال علاء مبارك عن واقعة "ابنة الرئيس مبارك"؟
-
الراتب باليورو.. رابط التقديم على فرص عمل للمصريين في 3 دول أجنبية
-
على مدار يومين.. تفاصيل موعد ومكان عزاء الراحل لطفي لبيب
-
"رقم قياسي".. مدبولي يكشف أسباب الضغط على شبكة الكهرباء
-
لماذا تراجعت أسعار الدواجن خلال الفترة الماضية؟
-
صرف معاشات أغسطس 2025 بزيادة 15%.. التفاصيل الكاملة

مقالات ذات صلة
أسباب وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل
26 يونيو 2025 10:35 ص
صواريخ طهران تكشف أوهام القوة الإسرائيلية أمام البعد الجغرافي
14 يونيو 2025 07:53 م
الدكتور فرج فودة.. الشهيد الحي
08 يونيو 2025 10:11 م
5 يونيو 1967.. من النكسة إلى اليقظة
04 يونيو 2025 08:30 م
أكثر الكلمات انتشاراً