الأربعاء، 20 أغسطس 2025

10:04 م

حسام السويفي

حسام السويفي

A A

حسام السويفي يكتب: سبيل الإرهاب لا سبيل الإرشاد.. وثيقة إخوان إسطنبول لنشر التكفير

لم تكن وثيقة إخوان إسطنبول ومؤسسي حركة ميدان التي صدرت بعنوان «سبيل الرشاد»  واعتبروها كتابا صاغه القيادي الإخواني التكفيري محمد إلهامي، سوى إعلان تمرد فكري على الدولة والمجتمع، وتأصيل ناعم للعنف العقائدي باسم الدين، وتكغير المجتمع.

لا يكتب محمد إلهامي، القيادي في تيار التغيير داخل جماعة الإخوان والمنظّر الأبرز لحركة "ميدان"، كداعية أو باحث، بل كمحرّض فكري يستند إلى ميراث سيد قطب ويعيد تدويره بلغة رقمية شبابية، تغلف التمرد على الدولة بآيات الجهاد، وتبرر العنف ضد الخصوم السياسيين باسم الولاء للدين

الوثيقة ليست مجرد اجتهاد ديني، بل مانيفستو فكري يرسّخ الانقسام داخل صفوف جماعة الإخوان نفسها، ويهاجم القيادات التاريخية، ويؤسس لفكر تكفيري جديد، يتجاوز ما قاله سيد قطب نفسه في كنابه "معالم في الطريق".

من الصفحات الأولى، يعلن إلهامي رفضه القاطع للدولة الوطنية، ويصفها بأنها "أداة كافرة لفرض العلمانية"، معتبرًا أن الانتماء إلى الدولة الحديثة خيانة شرعية.

لا يميز إلهامي بين النظام الحاكم والوطن، بل يدمجهما سويًا في مربع "العدو"، وأسقط عليهما أحكام "الطاغوت" و"الجاهلية".

وفقًا للوثيقة، فإن مصر ليست دولة إسلامية، بل "نظام قمعي يعادي الشريعة، وبالتالي لا تجوز طاعته، ولا يجوز التعاون مع مؤسساته، ولا يجوز الانخراط في مشروعه السياسي أو المجتمعي.

بهذا، تعيد الوثيقة إحياء فكرة المفاصلة الشهيرة التي أسس لها سيد قطب، ولكن بصيغة أكثر حدة وتحريضًا.

في واحد من أخطر فصول الوثيقة يشنّ إلهامي هجومًا عنيفا على قيادات الإخوان المحسوبين على جناح "القيادة التاريخية" ممثلًا في محمود حسين وإبراهيم منير (قبل وفاته)، ويتهمهم ضمنيًا بالخيانة الفكرية والتنظيمية، ويصف مساعيهم للمصالحة بأنها ردة عن الحق،  وانسلاخ من طريق الشهداء.

لا يتورع إلهامي عن استخدام عبارات تحمل دلالات تكفيرية، حين يتحدث عن المنهزمين،  و"الذين نكصوا على أعقابهم"، ويطالب الشباب بعدم السمع لهم أو طاعتهم، بل مقاطعتهم تنظيميا وفكريا. هكذا يتحول الخلاف السياسي داخل الجماعة إلى قطيعة عقائدية، تمهد لمزيد من التشظي والتطرف.

يعيد محمد إلهامي في هذه الوثيقة إنتاج فكرة "الجهاد المسلح" ضد الأنظمة، ولكن عبر ما يسميه "الرد المشروع على القمع"، فيفتح الباب واسعًا لتبرير الاغتيالات، والعمليات النوعية، دون إعلان صريح لذلك. بل ويستشهد بحوادث سابقة نفذت في مصر، معتبرا أنها رد فعل طبيعي.

الوثيقة تشيد ضمنا بحركات مثل "حسم" و"لواء الثورة"، ويصف القائمين عليها بأنهم "الأوفياء لدماء الشهداء"، ويدين كل من أدان تلك العمليات، سواء من داخل الإخوان أو من تيارات أخرى، باعتبارهم "انهزاميين"، و"يبررون للطغاة".

وبهذا، يتحول "سبيل الرشاد" إلى غطاء فكري لحركة العنف، دون أن يُعلن ذلك صراحة، بل بأسلوب ملتو يعتمد على الاستشهادات الدينية، والتجارب التاريخية، وتحميل الطرف الآخر مسؤولية "التطرف".

لا يفوّت محمد إلهامي فرصة التوظيف السياسي للقضية الفلسطينية، لاسيما غزة، في معاركه الفكرية. فهو يربط بين "نصرة غزة" و"إسقاط الأنظمة العربية"، وفي القلب منها النظام المصري، ويتهم القاهرة صراحة بـ"محاصرة الشعب الفلسطيني"، متجاهلًا كل الوقائع التي تثبت دعم مصر لقطاع غزة بالمعابر والمساعدات.

الوثيقة تحوّل البوصلة من مواجهة الاحتلال الإسرائيلي إلى استهداف الدولة المصرية، وتعتبر أن مقاومة إسرائيل لا تنفصل عن مقاومة الطغيان العربي، وخصت بالذكر أنظمة مصر والسعودية والإمارات. بذلك توظف الوثيقة غزة لا كقضية تحرير، بل كذريعة لإشعال الداخل المصري.

ربما تكون أخطر سمات الوثيقة أنها يعيد إنتاج خطاب سيد قطب، ولكن بطريقة معاصرة، موجهة للشباب، بلغة العصر الرقمي، فلا يستخدم إلهامي مصطلحات قديمة مثل "الطليعة المؤمنة"، بل يتحدث عن "جيل الشهادة"، و"جيل التمكين الثاني"، و"الراشدين الجدد"، في محاولة لإضفاء جاذبية على خطاب الوثيقة.

ما يكتبه محمد إلهامي في "سبيل الرشاد" ليس تنظيرًا عابرًا، بل يشكّل المرجعية الفكرية لحركة "ميدان"، التي باتت تمثل الجناح الجديد لجماعة الإخوان في إسطنبول. الحركة التي يقودها إلهامي مع شخصيات مثل يحيى موسى وأحمد مولانا، ورضا فهمي.

تم  توظيف الوثيقة في صورة عرض كتاب في حلقات بثّ رقمي، ومنشورات عبر تليجرام وتويتر، كما أصبحت مادة ترويجية في بعض الندوات المغلقة التي تقيمها "ميدان" في تركيا.

ترتبط الوثيقة أيضًا بخلفية غربية مشبوهة. عبر ـسارة لي واتسون، الناشطة الأمريكية الحقوقية المعروفة بصلتها بمراكز القرار في واشنطن، تظهر في خلفية هذا المشروع الفكري، عبر تنسيقها المباشر مع قيادات "ميدان"، وتمويل أنشطة تحت لافتة "الديمقراطية وحرية التعبير".

المفارقة أن إلهامي الذي يهاجم أمريكا في كل كتبه، لم يعترض على التمويل الأمريكي القادم من بوابة واتسون، بل وجد فيه حليفا مرحبا به، مادام يخدم مشروعه في إشعال الفوضى، وقد ظهرت سارة لي في أكثر من مناسبة ضمن أنشطة رقمية نظمتها "ميدان"، أبرزها ندوة بعنوان "مصر.. إلى أين؟"، تم فيها الترويج لمحتوى الوثيقة، وتبرير التمرد باسم المظلومية.

وثيقة "سبيل الرشاد" ليست طريقا للهداية كما يُوحى من عنوانها، بل طريق إلى التطرف والانقسام والدم، يغلف أفكار العنف والغلوّ بلغة شرعية مخادعة، وتحول الفتوى إلى سلاح فكري، يستخدم في تبرير الإرهاب ورفض الآخر، حتى من داخل الصف نفسه.

الوثبقة يتعدّ اليوم المرجع الأخطر لحركة "ميدان"، وتمثّل تحوّلا جوهريًا في خطاب الإخوان، من التنظيم السياسي إلى الطائفة المؤدلجة. ومعظم شباب الإخوان المنتمين لتيار التغيير يستشهدون به، ويستخدمونه كدستور في رفض الحلول الوسط، ومحاربة كل من يدعو للتهدئة أو إعادة الاندماج المجتمعي،  في وقت يخشى فيه أن تتحول وثيقة "سبيل الرشاد" إلى مرجع لعقود قادمة، وتنتج أجيالا جديدة أكثر تطرفًا، تسير على خُطى سيد قطب، ولكن بلغة تلغيم رقمي أشد خطرا.

search