الأربعاء، 27 أغسطس 2025

07:34 م

الشاعر الكبير مصطفى رجب يكتب: سيبويه يلبس "الجينز" ويشرب "الكولا"!

بالرغم من أن المرحوم الأستاذ "سيبويه"، ليس عربي الأصل، وقد أخذ كل علمه عن العالم العربي الخليل بن أحمد الأزدي، فإن شهرته فاقت شهرة شيخه، ووجد الأدباء الفكهون في اسمه الغريب مادة سائغة للتفكه، فحملوه كل أوزار اللغة العربية، أو بمعنى أدق: كل ما لا يفهمونه من أسرار العربية وغوامض أساليبها، ولأن كتابه الأشهر المسمى "الكتاب" صار مع الزمن "إنجيل" النحاة، ففيه غموض كثير، ولا أحد يتمكّن من فك شفراته بسهولة، لذلك نجد أمثلهم طريقة حين يستشهد بفقرة منه يقول "والظاهر من كلام سيبويه كذا وكذا....".

فمثلا لا أحد يستطيع أن يحدد بالضبط بدء ولع العقل العربي باستخدام الصيغة الصرفية المسماة: “أفعل التفضيل”، كتب الأدب تروي الكثير عن أهجى بيت، وأمدح بيت، وأغزل بيت، وأفخر بيت قالته العرب! ومن العجيب أن بعض المؤلفين – قديماً وحديثاً– قد يدفعهم تعصبهم لشاعر كبير كجرير مثلاً إلى أن يجعلوا قوله: 
       ألستم خير من ركب المطايا    وأندى العالمين بطون راح؟
هو أمدح بيت قالته العرب، وقوله:
       إن العيون التي في طرفها حور     قتلننا ثم لم يحيين قتلانا!

أغزل بيت قالته العرب، ويختارون له أهجى بيت، وأفخر بيت، إلى آخر هذه اللعبة التي تنتهي بالحكم المتوقع: أن جريراً هو أشعر العرب!!
هذا التفكير "الأحادي" – بضم الهمزة أو بمدها  أي الآحادي– كانت له انعكاسات خطيرة على العقل العربي، فأبو حنيفة هو أعظم الفقهاء (عند أنصاره بالطبع) ولما كان الشافعية يرون إمامهم الشافعي هو أعظم الفقهاء وأتقاهم، كان عليهم واجب لازم: وهو الحط من مكانة أبي حنيفة، ولأن مالكاً هو أعلم الثلاثة كان لا بد للمالكية من التهوين من شأن أبي حنيفة والشافعي، وهكذا صنع الحنابلة، ولأن الأربعة في النهاية هم "الأعظم"، فقد ضاعت جهود فقهاء عظام لم تتح لهم شهرة الأربعة، مثل: الأوزاعي، والإمام زيد، والليث بن سعد، وداود الظاهري، وغيرهم. 

ويمكن أن يقال مثل هذا الكلام عن علماء الحديث، فغالبية المسلمين يطيب لهم استخدام تعبير "أصح" كتاب بعد كتاب الله: وصفا لصحيح البخاري عند المشارقة، أو يقال التعبير نفسه وصفا لصحيح مسلم عند المغاربة. والإباضية في عمان وبعض بلدان المغرب يصفون مسند الربيع بن حبيب بأنه "أصح" كتاب بعد كتاب الله، فتتسع هوة الخلاف – نفسياً على الأقل– نتيجة الإحساس بالدونية الذي يرتبط ارتباطاً حتمياً باستخدام صيغة التفضيل. 
ومع أن كتب اللغة تؤكد أن التفضيل – بوصفه صيغة اشتقاقية- لا يعني إلا زيادة المفضل على المفضل عليه في صفة من الصفات، دون سلب المفضل عليه الصفة الأصلية التي هي موضوع التفاضل، إلا أن قولنا "زيد أحد بصراً من عمرو"، أصبح يعني في مفهومنا أن عمراً لا بد له من نظارة طبية كثيفة كثافة الشعر الحداثي!
مع أن نظره قد يكون مثلاً 6 على 9، في حين يكون نظر زيد 6 على 6، وبذلك يكون هناك ملايين – من الخليج إلى المحيط– نظرهم يتراوح بين 6 على 12 و6 على 60 ولكنهم لا يشعرون بالمهانة التي يشعر بها عمرو حين يسمع تلك الجملة التفضيلية!! 
وقد ترتب على هذا: انحياز المفضل عليه إلى نفسه، وانحياز أنصاره إليه ومحاولتهم الذب عنهم، فنتج عن ذلك أن وجد في المجتمع العربي فريقان كبيران: الفرزدقيون والجريريون، وتحوّلت العقلية العربية من الأحادية إلى الثنائية. ففي مصر مثلاً أكثر من خمسة عشر نادياً رياضياً ولكن المصري الأصيل لابد له من أن يكون أهلاوياً أو زملكاوياً.. فالنادي الأهلي ونادي الزمالك هما جرير والفرزدق، ولا معنى لأن يشجع أحد أحداً غيرهما. 
وكثير من شعرائنا في مطلع هذا القرن كانوا مجيدين حقاً – بمقاييس عصرهم– مثل أحمد محرم ومحمد عبد المطلب وخليل مطران وعلي الجارم، ولكن الكرة الأرضية – في ذهنية النقد العربي- لم تكن تتسع إلا لاثنين: شوقي وحافظ. وشأن الأدب شأن الشعر، ففي الوقت الذي كانت فيه أقلام: محمد حسين هيكل، وتوفيق دياب، وأحمد أمين، وعبد الوهاب عزام، أحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي وغيرهم، تصول وتجول، لم تكن الساحة تحتمل إلا المبارزين الأكثر شهرة، وهما: طه حسين والعقاد، تمشيا مع ضرورة ألا يكون على الحلبة إلا مبارزان!
ولا بد لكل مسلم بالغ عاقل – كما يقول الفقهاء– أن يشجع أحد الشاعرين: أحمد شوقي أو حافظ إبراهيم، وأن يشجع أحد العملاقين: طه حسين أو العقاد. 
وإذا أردت إقناع أحد المتعصبين بأنك متحرر عن التأييد المطلق والذم المطلق، وأنك تحب لطه حسين “الأيام” و"حديث الأربعاء"، تماما كما تحب كتاب العقاد عن "ابن الرومي" وكتابه عن نفسه “أنا”، اتهمك من تناقشه بأنك من "الباطنية" أو من الذين يؤمنون بمبدأ "التقية"، أي أنك متحيز ولكنك تخفي تحيزك لأديبك المفضل!!
وما زالت صحافتنا تكرس هذا الوضع، ففلان أشجع العرب، وفلان أعلم أهل عصره، وفلان أمهر لاعب في الفريق. ومن الأحادية إلى الثنائية أضاع العقل العربي جهوداً كبيرة في الخصومات والعصبية كان من الممكن أن تستغل لمزيد من العطاء والإبداع، ولا حاجة بنا إلى تضييع الوقت في المقارنة بين البحتري وأبي تمام، وشوقي حافظ، و"أبو" الطيب المتنبي وأبو جلمبو..!
وقد سرت عدوى الثنائية من العرب إلى الأمريكان، فرأينا الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، يقول – وهو يتهيأ لالتهام العراق: "من ليس مع التحالف الدولي بقيادتنا، فهو مع الإرهاب" ، والإرهاب في مفهومه هو كل ما يهدد أمن إسرائيل، أو مصالح الأمريكان.
كما قدم الأمريكان مفهوما – عربيا جدا!!– للديموقراطية، فقد كانوا شداد النقمة على القائد الباكستاني برويز مشرف - لأنه جنرال عسكري انقلب على رئيس الوزراء الشرعي المنتخب الذي عينه رئيسا لأركان جيشه: نواز شريف– وظلوا يطالبون مشرفا بالتنحي بالتي هي أحسن، ويذرفون الدموع غزارا، ويلطمون الخدود، ويشقون الجيوب، على الديموقراطية المهتوكة العرض في باكستان، بأيدي العسكر، فلما أن حان وقت غزوهم لبلاد الأفغان، وقدم لهم مشرف كل التسهيلات لغزو جارته – أفقر بلد في العالم حسب تقرير الأمم المتحدة– تغير الحال، وذهبت السكرة، ولمعت الفكرة، واستقبل مشرف في البيت الأبيض، واصطف له الحرس يحيونه تحية أي رئيس منتخب شرعي، واتضح أن الديوقراطية تموت في كل مكان وتحيا في الباكستان!! وانتقل برويز مشرف من على يسار أفعل التفضيل ليكون على يمينه، بعد أن تغير تعريف سيبويه لأفعل التفضيل، وأصبح له تعريف غربي حديث أكثر مرونة وجاذبية!!

search