الجمعة، 19 سبتمبر 2025

10:40 ص

الغريزة والعاطفة.. أيهما يقود قلب الرجل حقًا؟

في كل نقاش عابر بين الأصدقاء، وفي أحاديث المقاهي أو الجلسات العائلية، يطل هذا السؤال من بين الكلمات: ما الذي يحرّك الرجل أكثر، الغريزة أم العاطفة؟ هل ينجذب أولًا بقوة فطرية لا تفسير لها، أم أن مشاعره العميقة هي التي تحسم اختياراته؟ إنّه سؤال يلمس واقعًا نراه يوميًا، حيث تتباين تصرفات الرجال بين من يندفع وراء رغبة عابرة، ومن يتريّث ليصغي إلى قلبه، وكأن داخل كل رجل ساحة صراع لا تُرى.

الغريزة هي أول نداء يتشكل في تكوين الإنسان، تسبق الوعي والتفكير، وترافقه منذ فجر الحياة. إنها طاقة فطرية تدفعه للحفاظ على بقاء النوع، لكنها لا تقتصر على الجانب البيولوجي فحسب. في عالم الرجل، تتسع لتشمل حب الإنجاز، والرغبة في التملك، والشغف بإثبات الذات. تدفعه أحيانًا لاتخاذ قرارات سريعة، وكأن قوة خفية تسوقه نحو ما يريد دون أن يمنحه وقتًا للتأمل.

أما العاطفة، فهي الوجه الآخر الذي يمنح الرجل إنسانيته الأرقى. هي التي تدفعه إلى الحنان، وإلى البحث عن علاقة تشعره بالأمان، وتفتح أمامه مساحة للتضحية والتفاني. حين يحب الرجل بصدق، تصبح عاطفته جسرًا يربطه بالاستقرار، وتجعله يرى في الآخر امتدادًا لروحه لا مجرد انعكاس لرغباته. هي التي تضيء ملامح الأب الذي يذوب حنانًا أمام أولاده، والصديق الذي يشارك من يحب همومه وانتصاراته، والزوج الذي يتقن لغة الاحتواء.

لكن أي القوتين أقوى؟ الإجابة ليست سهلة، لأن الغريزة قد تفرض حضورها في لحظة اندفاع، بينما تتفوق العاطفة في لحظات النضج. المجتمع يميل إلى القول إن الرجل تحكمه الغريزة أكثر من المرأة، لكن الواقع يكشف صورًا مختلفة. فهناك رجال يغلب عليهم الجانب العاطفي، يختارون شركاء حياتهم بحساسية وعمق، ويفضلون الاستقرار على حساب المغامرات العابرة، وهناك من يعيشون مراحل تتقدم فيها الغريزة ثم تتراجع أمام تجربة وجدانية صادقة.

هنا تبدأ الأسئلة التي يتداولها الناس في جلساتهم اليومية: “الراجل مهما كبر عقلُه، بيفضل قلبه يميل لأول انبهار”، يردد البعض، بينما يعقب آخرون: “لكن لما يحب بجد، كل شيء يتغير”. وتتوالى التساؤلات: هل ينجذب الرجل أولًا إلى الملامح التي تخطف نظره، أم إلى دفء الحديث الذي يلمس روحه؟ هل يستطيع أن يفرّق بين لحظة رغبة عابرة وشعور يستحق أن يراهن عليه؟ وما الذي يجعل رجلًا يتراجع في آخر لحظة، وكأنه استيقظ من حلم قصير؟ هذه الأسئلة ليست مجرد حكايات تُروى، بل هي مرآة لواقع نعيشه، حيث تتداخل الدوافع وتتشابك المشاعر حتى لا نعرف من الذي يقود الآخر.

التربية والبيئة تلعبان دورًا كبيرًا في ترجيح كفة على أخرى. المجتمع الذي يربّي أبناءه على أن الرجولة تعني السيطرة والاندفاع يترك مساحة أوسع للغريزة لتتقدم. أما التربية التي تمنح الرجل فرصة التعبير عن مشاعره، وتعلّمه الإصغاء لقلبه، فتعزز جانب العاطفة وتجعلها أكثر قدرة على التوجيه. لذلك نرى رجلًا يوازن بين الدافعين فيختار بحكمة، وآخر ينجرف خلف اندفاعاته حتى يكتشف لاحقًا ثمن التهور.

ومع مرور السنوات، يتعلم الرجل أن الغريزة، مهما كانت قوية، قد تهدم أكثر مما تبني إذا لم يُحسن قيادتها، وأن العاطفة، مهما كانت نبيلة، قد تتحول إلى ضعف إن لم يُرافقها عقل. النضج يمنحه القدرة على التمييز بين الدافعين، فيدرك أن الغريزة طاقة للحياة لكنها تحتاج إلى وعي، وأن العاطفة شعور عميق لكنه بحاجة إلى حراسة من الانكسار.

الجميل في هذا الصراع أن القوتين ليستا عدوّتين دائمًا. حين يتصالح الرجل مع ذاته، تتحول الغريزة إلى شغف متزن، والعاطفة إلى حنان واعٍ، فيلتقيان في نقطة وسط حيث لا يكون الحب مجرد انجذاب، ولا تكون الرغبة مجرد اندفاع. عندها يصبح قادرًا على أن يحب بعمق، ويختار بعقل، ويعيش رجولته بمعناها الأرقى؛ رجولة لا تُقاس بحدة الغريزة ولا بفرط العاطفة، بل بقدرته على الموازنة بينهما.

في النهاية، لا يمكن الجزم بأن الغريزة هي الأقوى أو أن العاطفة هي الأعمق في كل الحالات. فالقوة الحقيقية تكمن في وعي الرجل بوجودهما معًا، وفي قدرته على تحويل هذا الصراع إلى انسجام. حين يصغي إلى نداء الجسد دون أن يُسكت صوت القلب، ويحتفي بالمشاعر دون أن يتجاهل حكمة العقل، يكون قد بلغ ذروة النضج الإنساني، حيث تصبح كل خطوة يخطوها اختيارًا لا اندفاعًا.

search