
أنا من صنعتك من هواي ومن ظنوني!
وراء كل رجل عظيم امرأة، ووراء كل امرأة عظيمة رجل… ليست هذه الجملة مجاملة عابرة، بل اعتراف عميق بأن العظمة، في جوهرها، لا تُبنى في عزلة. إنها نتاج دعمٍ خفي، واحتواءٍ صامت، وتنازلات لا تُكتب في السير الذاتية لكنها تُكتب في سطور القدر.
نعم، هناك رجال صاروا أعظم لأن امرأة آمنت بهم في اللحظة التي شكّ فيهم العالم، وهناك نساء صرن أقوى لأن رجلًا ظلّ سندا لهن، لا يُنافسهن ولا يطفئ وهجهن، بل يؤمن أن الضوء يتسع لهما معًا.
لكنّ المشكلة تبدأ حين تُسدل ستائر النكران. حين يعلو صوت “أنا من صنعتك”، أو “أنا من وهبتك الثقة والفرصة”، كأن العطاء لا يكتمل إلا حين يُعلن عن نفسه. بعض النساء، حين يصلن إلى نجاحٍ يسطع، ينسين ذاك الذي كان خلف الستار يطفئ حرائق الحياة كي لا تصل إليهن. ينكرن دوره لأن الاعتراف به يُشبه تقاسم المجد، وهن لا يُردن المشاركة في لحظة التصفيق.
وبعض الرجال، بدورهم، يجعلون من دعمهم للمرأة منّةً لا نعمة، فيذكّرونها في كل لحظة أنّ نجاحها ما كان ليكون لولاهم، فيغتالون المعنى الإنساني للعطاء حين يحوّلونه إلى دليل ملكية.
كثير من النساء، حين يمنحن، يُعطين بكل جوارحهن. لا يقدّمن الدعم فقط، بل يسكبن أرواحهن في من يحببن. تقول إحداهن في لحظة مكاشفة داخلية: فأنا من صنعتك من هواي ومن ظنوني، صنعت ملامحك من خيالي، ومنحتك ملامح القوة حين كنتَ هشًّا، ومن دفء قلبي نسجت حولك غطاءً كي لا يراك البرد. أحببتك كما لو أني أخلقك من البداية، ورأيت فيك ما لم يرك أحد، فكبرت في عيني حتى ظننتَ أن ذلك الضوء فيك، لا في نظرتي إليك. تلك الجملة، وإن بدت نرجسية أحيانًا، هي في الحقيقة ترجمة مؤلمة لحبٍ أنثوي يخلط بين العطاء والتكوين، بين أن تمنح وبين أن تظن أنك خلقت مَن منحتَه.
في الحقيقة، العلاقات العميقة لا تُقاس بمن قال “أنا صنعتك”، بل بمن قال “أنا آمنت بك”. هناك فارق شاسع بين من يُريد أن يُشكّلك على صورته، ومن يُريد لك أن تكون صورتك الحقيقية. الرجل الذي يحتوي امرأة عظيمة لا يخاف من وهجها، لأنه يعلم أن بريقها لا يُطفئ نوره، بل يضاعفه. إنه لا يتراجع خجلاً من نجاحها، بل يقف فخورًا كجدار خلفي يثبت اللوحة دون أن يُنافسها في الواجهة. ذلك الرجل يدرك أن الاحتواء ليس ضعفًا، وأن إنكار الذات أحيانًا هو قمّة القوة، لأنه نابع من يقين أن ما يمنحه سيعود إليه في صورة امتنان أو حب أو حتى راحة ضمير.
ومع ذلك، بعض النساء - مدفوعات ربما بتجارب الظلم القديمة- يُبالغن في رفع شعار الاستقلالية المطلقة، فيُسقطن من حساباتهن كل من ساندهن، خشية أن يُقال إن الفضل لغيرهن. ينسين أن الاعتراف لا ينتقص من مجد، بل يزيده اتساعًا. لأن الإنسان العظيم لا يخاف من المشاركة في الضوء، بل يخشى أن يخسر إنسانيته حين يُنكر.
المرأة العظيمة حقًا هي التي تعرف أن نجاحها لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج أعينٍ ساهرة، وأيدٍ تمتد دون أن تُطلب، وكتفٍ احتمت به حين مالت الحياة. وهي التي لا تجد حرجًا في أن تقول: "كان بجانبي رجل آمن بي حين لم أكن أؤمن بنفسي." تمامًا كما أن الرجل الناضج هو من يقول: "رفعتني امرأة حين كنت على وشك السقوط." في هذه الجمل البسيطة يسكن جوهر العلاقة الناضجة: شراكة في البناء لا مجرد تباهي .
نكران الجميل في الحب ليس سلوكًا سطحيًا فحسب، بل علامة على جرح داخلي لم يُشفَ بعد. فالذي لا يعترف بدور الآخر في رحلته، غالبًا يخشى أن يُظهر ضعفه أو احتياجه، وكأن التقدير يقلّل من قيمته. بينما الاعتراف بالفضل هو ذروة النضج العاطفي، لأنه يُعلن أن النجاح ليس سباقًا، بل رحلة عبور من "أنا" إلى "نحن".
كم من امرأة عظيمة انهارت لأنها فقدت الرجل الذي كان يوازن طاقتها، وكم من رجل عظيم تراجع لأن المرأة التي كانت وقوده صارت خصمه. عندما يتحوّل الامتنان إلى منافسة، ينطفئ المعنى. وحين يتحوّل الحب إلى حساب أرباح وخسائر، تضيع الرحلة كلّها.
العظمة الحقيقية، سواء في رجل أو امرأة، لا تولد من الذات وحدها، بل من تفاعل الأرواح التي التقت في الطريق. فالرجل الذي يتنازل عن وهجه قليلاً لتتوهج امرأته أكثر، لا يخسر شيئًا، بل يربح امرأة ممتنّة قادرة على أن تمنحه عمرًا مضاعفًا من الدفء. والمرأة التي تُقرّ بفضل رجلٍ احتواها، لا تُقلل من شأنها، بل تُثبت أنها عظيمة بما يكفي لتُبصر من كان يسندها حين كانت مشغولة بالصعود.
العلاقات التي تبنى على الإنكار تشيخ بسرعة، أما التي تُبنى على الاعتراف فتزهر حتى في الخريف. لأن الامتنان يُجدّد الماء بين الجانبين، في حين أن الكبرياء يجفّف نهر المودة حتى يصير سرابًا.
ولعل أجمل ما يمكن أن يُقال في نهاية هذه الفكرة أن “العظمة ليست أن تقول أنا وحدي من صنعت نفسي، بل أن تقول: أنا كنت محظوظًا بمن آمن بي حين لم أفعل". فثمة عظمة لا تُرى في الأضواء، بل تُزرع في الظلال، وثمة قلوب عظيمة لم تكتب أسماءها في التاريخ، لكنها كتبت في الأرواح سطورًا لا تُمحى.
فالعظماء لا يُنكرون من ساندهم، لأن الامتنان لا يُقلّل من القدر… بل يُكمله.

الأكثر قراءة
-
القنوات الناقلة لمباراة الزمالك وديكيداها بالكونفدرالية الأفريقية
-
أسعار الذهب تواصل التحليق، عيار 21 يقترب من 6000 جنيه
-
شقيق السائق في حادث ترعة منقباد: أخي لم يكن سائقًا.. وابنتاه بين الضحايا
-
احذروا الفوضى.. لا يمكن أن يكون طفلاً!
-
التعريفة الجديدة للمواصلات في أسيوط بعد تحريك أسعار الوقود
-
كيف تفوق "ديكستر الإسماعيلية" على بطل المسلسل في حادث إنهاء حياة صديقه؟
-
سعر الجنيه الذهب اليوم الجمعة 17 أكتوبر، استثمار ناجح وسهل
-
استعراض بين المقاهي، أب وابنته يؤديان حركات بهلوانية في الشارع (فيديو)

مقالات ذات صلة
إلى كل لامين يامال.. لماذا يتعلق الصبيان بالمرأة "الناضجة اللعوب"؟
10 أكتوبر 2025 09:08 ص
نساء النصر وقلوب الفقد.. سلامٌ يليق بمن صبرن فانتصرن
05 أكتوبر 2025 05:20 م
إلى متى ستظلين ساذجة عاطفيا؟
03 أكتوبر 2025 09:27 ص
لماذا يقع البعض في إدمان تصوير وتوثيق اللحظات الحميمية؟!
26 سبتمبر 2025 08:20 ص
أكثر الكلمات انتشاراً