الجمعة، 26 سبتمبر 2025

01:51 م

من الشقاء إلى الدكتوراه.. "عم صابر" عامل بناء يؤكد المعنى الحقيقي للتضحية

تعبيرية

تعبيرية

غالبا ما يترك بعض الأشخاص انطباعا لدينا رغم عدم وجود قرابة معهم، يتركون بصمة أعمق من كل الروابط الفطرية، بعضهم يبني جدران بيت، وآخرون يبنون أرواحًا وأحلامًا. 

"عم صابر" لم يكن والدًا بالمعنى التقليدي، لكنه كان الأب الحقيقي لطفل ولد في بيت مكسور، فحمله بحبه وتضحياته حتى أوصله إلى منصة الدكتوراه. 

حكاية تجسد أن الأبوة الحقيقية لا تُقاس بالكلمات أو بالألقاب، بل بالعرق الذي يتصبب في صمت، وبالقلب الذي يختار أن يمنح دون أن يطلب شيئًا في المقابل.

هذه القصة التي تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، ونقلها الدكتور إسماعيل عبد المالك، ليست مجرد حكاية نجاح أكاديمي، بل ملحمة إنسانية تُجسد معنى التضحية والوفاء، بطلها رجل يدعى "صابر"، أو كما عرف لاحقًا باسمه الحقيقي صالح ريان، عامل بناء أمضى حياته في "مهنة الفاعل"، ليحول طفلًا بلا سند إلى رجل يحمل شهادة دكتوراه، وقلوب الملايين.

طفل في بيت غير مكتمل

يبدأ السرد من الطفولة، إذ فتح عينيه على بيتٍ مفكك، لم يكد يتعلم المشي حتى انفصل والداه، لتأخذه أمه "إحسان" إلى قرية نائية في منطقة ريفية فقيرة، حيث حقول القصب والشمس الحارقة والثرثرة اليومية عن لقمة العيش.


لم يعرف ملامح والده الحقيقي بوضوح، لكن الفقر المادي والمعنوي كان حاضراً في كل زاوية من حياته.

في سن الرابعة، طرق رجل جديد باب حياتهم. لم يكن يمتلك شيئًا سوى جسد نحيل محروق من الشمس، ويدين متشققتين من الأسمنت والغبار. كان هذا الرجل زوج الأم الجديد، "صابر"، الذي جاء ليعيش حياة قاسية مع أمٍ وطفل، بلا بيت ولا مال.

"لم أحبه في البداية"، يقول الابن: "كان يغادر باكرًا، يعود متأخرًا، ورائحته مزيج من العرق وغبار البناء، لكن شيئًا فشيء بدأ يثبت أنه ليس مجرد زوج لأمي."

عم صابر.. الأب الذي لم يطالب بلقب

في لحظات صغيرة لكنها عميقة، بدأ "صابر" يترك أثره في حياة الطفل.


أول من أصلح دراجته القديمة، أول من رقع حذاءه الممزق بصمت، أول من جاء ليصطحبه من المدرسة حين تعرّض للتنمر، دون أن يوبخه أو يصرخ في وجهه. 

وفي طريق العودة، لم يقل سوى جملة واحدة بقيت محفورة في ذاكرة الطفل: "لن أجبرك على أن تناديني بأبي، لكن اعلم أن ’عمك صابر‘ سيكون دائمًا خلفك إذا احتجت إليه."

منذ تلك اللحظة، صار الطفل يناديه "عم صابر". كان رمزًا للحنان الصامت، ذلك الحنان الذي لا يحتاج إلى اعترافٍ لفظي، بل يُثبت وجوده بالفعل والعمل.

ليالي التعب وأحلام التعليم

كانت حياة الأسرة بسيطة، بدخل ضئيل بالكاد يغطي احتياجاتهم.
عم صابر، بزي العمل المغطى بالغبار، كان يعود كل ليلة مُنهكًا، عيناه غائرتان من التعب، ويداه ملطختان بالجير والمونة.


ومع ذلك، لم ينس أن يسأل دائمًا: “كيف كان يومك في المدرسة؟”، لم يكن متعلمًا، ولم يستطع شرح المعادلات أو النصوص، لكنه كان يدرك قيمة العلم ويكرر دائمًا: “قد لا تكون الأول في الصف، لكن اجتهد... أينما ذهبت، سيحترمك الناس بعلمك”.

بيع الدراجة النارية

حين اجتاز الابن امتحان القبول بجامعة الأزهر، بكت أمه فرحًا، بينما جلس عم صابر صامتًا، ينفث دخان سيجارة رخيصة.
في اليوم التالي، اتخذ قرارًا سيغير مسار حياتهم: باع دراجته النارية الوحيدة، ومع بعض مدخرات الجدة، تمكن من إرسال الابن إلى الجامعة.

في يوم الرحيل إلى المدينة، جاء عم صابر مرتديًا قبعة قديمة وقميصًا مجعدًا، عرقه يتصبب بينما يحمل صندوقًا مليئًا بهدايا ريفية بسيطة: جرة جبن قديم، كيلوات من العسل الأسود، وأكياس كشك.


وقبل أن يغادر، قال لابنه: “ابذل جهدك يا ولدي. ادرس جيدًا”.

وفي وجبة الغداء الأولى في السكن الجامعي، وجد الابن ورقة صغيرة مطوية أربع مرات أسفل الطعام، كتب فيها عم صابر بخطه المتواضع: “عمك صابر لا يفهم ما تدرسه، لكن أيًا كان ما تدرسه، سيعمل لأجله. لا تقلق”.

كانت تلك الورقة أقوى من أي دعم مادي أو معنوي.

سنوات من التعب

واصل الابن دراسته الجامعية والدراسات العليا، بينما استمر عم صابر في العمل الشاق.
يداه أصبحتا أخشن، وظهره أكثر انحناء.
وفي إحدى زيارات الابن، رآه جالسًا أمام البيت، يلهث بعد يوم طويل من رفع الأحمال الثقيلة.
حين طلب منه أن يرتاح، لوّح عم صابر بيده قائلاً:

"عمك صابر ما زال قادرًا. حين أشعر بالتعب، أفكر: أنا أُربي دكتورًا... فأشعر بالفخر."

ابتسم الابن، لكنه كتم في قلبه حقيقة أن الدكتوراه تعني سنوات أخرى من التضحية.

دموع غير متوقعة

في يوم مناقشة رسالة الدكتوراه، توسل الابن لعم صابر حتى يحضر، واستعار الرجل بدلة من ابن عمه، وحذاءً أضيق من مقاسه، وجلس في الصف الأخير من القاعة، يحاول أن يجلس باستقامة، بينما عيناه مثبتتان على ابن لم ينجبه، لكنه ربّاه.

بعد المناقشة، جاء الدكتور عبد الحميد شرشر لتهنئة العائلة، وعندما وصل إلى عم صابر، توقف فجأة، ودقق النظر فيه، ثم قال بدهشة: "أنت صالح ريان، أليس كذلك؟"

وأكمل الدكتور شرشر قائلاً: "كنت جارًا لموقع بناء في أشمون، وأذكر يوم حملتَ زميلك المصاب من على السقالة، رغم أنك كنت مجروحًا أنت أيضًا لقد أنقذت حياته... ذلك الرجل كان عمي."

في تلك اللحظة، ساد الصمت في القاعة لم يكن الابن البطل، بل كان “عم صابر”، الرجل الذي بنى بيوتًا بيديه، وبنى إنسانًا بروحه.

أبوة تقاس بالحب

“قد يرى العالم عم صابر مجرد عامل بناء، لكنه بالنسبة لي كان بانيًا لأكثر من مجرد بيوت... لقد بنى الأمان، وبنى الكرامة، وبنى المستقبل”.

شهادة الدكتوراه حملت اسم الابن، لكن كل حرف فيها كان منقوشًا بعرق عم صابر، وبالشقوق في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها متعبًا ومع ذلك سأل: “كيف كان يومك في المدرسة؟”.

search