السبت، 27 سبتمبر 2025

05:57 م

اختر من بين الأقواس

لا أعلم أي العصور أسعد، هل عصر القنوات الثلاث والتلفاز ذو البكرة وقرآن التاسعة صباحاً والسلام الجمهوري في الثانية عشرة ليلاً أم عصر المنصات الإعلامية المتواصلة وعصر مش هتقدر تغمض عينيك؟
هل عصر الشاي بالنعناع أم عصر الدُبل شوت فلات وايت اكستريم كريم اسبريسو، هل عصر المصيف الأسبوعين المتواصلين في رأس البر أو جمصة أو شاطئ ميامي؟ أم عصر الويك إند وهو الساحل الشرير وبس؟

ليس ما أقصده هنا النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، لكني هنا أعني الحرية والقدرة على الاختيار. 
قديما كانت لدينا اختيارات محدودة والمحدودية هنا ليست عكس التعددية، ولكن زمن ما قبل العولمة والقولبة والتوجيه.... كانت اختياراتنا أسهل وأحسن وأدق، وجودة المطروح كانت في منتهى العظمة والأهمية والإخلاص للعمل، كان رد الفعل سريعا، واضحا، متعة ما بعد الاختيار حاضرة، التردد غائب.

كان الأمر أشبه باختيار ما بين الأقواس.... الإجابة في الثلاث أو الأربع إجابات فيما بين الأقواس ليس أكثر، أما الآن فقد أصبح الاختيار ما بين ما يقارب وقد يزيد عن المائة ألف اختيار في ريموت التلفاز الاتش دي اف فور كيه باركيه سمارت، وأكثر من تريليون نوع للشاور جل عبر الفيسبوك ستور، وعشر وميت ألف نوع للبنطلون الجينز، علاوة على المنتجات الجديدة التي توصف بأنها في غاية الأهمية مثل حامل للشنط البلاستيك...أو صينية سيلكون صديقة البيئة عشان البيئة تشعر بوحدة وتحتاج للأصدقاء.

كنا نظن كما أخبرونا أن الهدف هو الراحة والرفاهية، تعدد الاختيارات من أجل اختيارات أفضل وأسهل، لكن في حقيقة الأمر هذا لم يحدث، بل حدث ما لا يحمد عقباه، تلك الاختيارات المتعددة لم تصبنا سوى بالتوتر والتردد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، حتى البسيطة منها المتعقلة بريموت التيلفزيون، تلك المتعلقة بشراء الملابس، تلك المتعلقة بشراء الأشياء التي لا قيمة لها على الإطلاق ولكن في محتوى الإعلان تم توجيهم أن حياتك بدونها خراب ودمار وتعب وشقا.

تحدث أولفين توفلر (1928- 2016) في كتابه المرجعي صدمة المستقبل عام 1970 عن ما يسمى فائض الاختيار أو فرط الاختيارات، يقول إن تحقيق الحد الأقصى من حرية الاختيار للفرد هو في نظر المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً بمثابة المثل الأعلى للديموقراطية، لكن معظم الكتّاب يتنبأون بأننا سوف نبتعد أكثر فأكثر عن هذا المثل الأعلى، فهم يرسمون صورة قاتمة للمستقبل، صورة يبدو فيها الناس على هيئة مستهلكين – منتجين، لا عقول لهم، محاطون بأنساق من السلع المنمطة، ويتعلمون في مدارس منمطة، ويلقنون ثقافة جماعية منمطة، ويجبرون على تبنى أساليب منمطة للحياة، وأن إنسان المستقبل (اللي هو إحنا) قد لا يعاني من انعدام الاختيار بل من كثرته المربكة. وسوف يصبح ضحية لتلك المحنة الفريدة التي سيصنعها عصر ما فوق التصنيع (فائض الاختيار).

لقد سبّبت تعددية الاختيارات ارتباكاً شديداً للمواطنين المستهلكين منهم والمنتجين، إن كل اختيار تستتبعه الحاجة إلى معلومات أكثر ليتمكن من اتخاذ القرار، وكل بائع يرغب في معلومات أكثر ليتمكن من تنميط المستهلكين وفرزهم وبيع المنتج لصاحبه بأقل مجهود في البحث عنه.

وأغفل صُنّاع التكنولوجيا والوسائط دراسات الطب النفسي الخاصة بتأثير التغيير على الإنسان، فيقول البروفسير د.أ.بيرلين من جامعه تورنتو أن الجهاز العصبي المركزي في الحيوانات العليا مصمم للتكيف مع بيئة تنتج معدلا معيناً من التنبيه، وهو بالطبع لن يقدر على أداء وظيفته على خير وجه في بيئة تحمله فوق هذا الجهد، فيصاب بما يسمى الشلل التحليلي (Analysis Paralysis).... وهو حالة من عدم القدرة على اتخاذ قرار بسبب التحليل المفرط والتفكير في الخيارات المتاحة بشكل مبالغ فيه، مما يؤدي إلى العجز عن اتخاذ أي إجراء والخوف من اتخاذ قرار خاطئ. يحدث هذا عندما يفوق الخوف من ارتكاب خطأ أو اختيار الحل غير الأمثل التوقعات الواقعية أو القيمة المحتملة للنجاح، مما ينتج عنه شلل في عملية اتخاذ القرار، وهذا ما أصبحنا عليه الآن، مصابون بشلل تحليلي لا نقدر على الاختيار ولا بد من أن يمسك بزمام أمورنا شخص آخر.

وبما أن المستقبل لم يحقق لك الرفاهية المطلوبة أو الراحة المرجوة، فقرر المستقبل أن تكون مستعيناً بصديق يسمح لك بالاختيار طالما لم يعد هناك أقواس، لا بد وأن يقدم لك أحد يد المعاونة في اختيار ذوقك الشخصي، سواء في الملبس أو المأكل أو المشاهدة أو السمع، باختصار أنت ستحتاج لحواس إنسان آخر يختار لك.

فكان الترند والبلوجر والانفلونسير، فتجد شخصا لا تعلم من هو ولا ماذا درس ولا ماذا يمتهن سوى أن له صفحة على الفيسبوك يحدثك عن ماذا تختار وماذا تشاهد وماذا تأكل، ومع الوقت أصبحت لا تختار بدونه، وحين ترغب في مشاهدة فيلم تبحث عمن شاهده قبلك ومن نقده قبلك ومن مدحه قبلك، ومع الوقت أصبحت بلا قرار، أصبحت شخصا مترددا في كل قراراتك.
لقد كانت الأقواس نعمة لم ندركها إلا بعد أن صعقنا تيار الاختيار..

title

مقالات ذات صلة

عالم ثقيل الظل

20 سبتمبر 2025 09:30 ص

عيش السرايا

13 سبتمبر 2025 09:30 ص

ما قبل الميلاد

06 سبتمبر 2025 09:36 ص

زواج الإنستجرام

30 أغسطس 2025 09:00 ص

search