بيزنس خفي في العيادات.. أطباء يخدعون مرضاهم بـ"اتفاق شفهي" مع الصيدليات والمعامل

مريض في صيدلية - أرشيفية
في بعض الأحيان، حين تقصد عيادة طبيب تفاجأ بعد توقيعه الكشف عليك أنه يطلب منك إجراء أشعة أو تحليل في مركز طبي بعينه، ويؤكد أنه لن يقبل نتيجة من أي مركز آخر، وإن طلبت تفسيرًا لذلك يؤكد لك أن هذا المركز نتائجة دقيقة وموثوقة.. قد يكون كلامه صحيحًا، لكن في بعض الأحيان يكون الأمر مجرد “بيزنس” بين الطرفين.
“الدكاترة بيتاجروا بينا”
القصص التي تؤكد وجود هذا البيزنس المشبوه كثيرة، ومن بينها ما روته مريضة تُدعى شادية لـ"تليجراف مصر": “الدكاترة بيتاجروا بينا.. كنت أعاني من مشاكل في الغدة وذهبت لعيادة أحد الأطباء فطلب مني عمل أشعة مشترطًا إجراءها في معمل بعينه، وعندما عدتُ إليه بالنتيجة من أجل الاستشارة، فاجأها بأنها مريضة بالسرطان”.
اتفاق بين الطبيب والمعمل
وأضافت شادية التي تعيش بأحد أحياء القاهرة: “لوهلة شعرتُ أن هناك اتفاقًا بين الطبيب والمعمل، في حين أن ثقتي بطبيبي كانت السبب الذي دفعني للتوجه إلى ذلك المعمل، لكن عندما قصدتُ طبيبًا آخر، اطلع على الأشعة وقال لي مندهشًا (انت سليمة وماعندكيش سرطان والأشعة دي معمولة في معمل تحت بير السلم)”، ومن وقتها ينتابني شعور بالشك حين يطلب منها أي طبيب التوجه إلى معمل بعينه.
تستكمل السيدة الثلاثينية حديثها: “في أحيان كثيرة عند الذهاب لمعمل تحاليل بتوصية من الطبيب يحصل المريض على خصم أو تخفيض، وهو ما يؤكد وجود اتفاق مسبق بين الطبيب والمعمل”.
قصة شادية تفتح ملف بيزنس المصالح المتشابكة بين الأطباء والصيادلة وأصحاب معامل التحاليل وشركات الأدوية، فهذه السيدة واحدة من الآلاف أو ربما ملايين من المترددين يوميًا على الأطباء.
بيزنس الأطباء والصيادلة
هذ البيزنس المشبوه أضحى ظاهرةً متعارف عليها في كثير من الأحيان، حيث يحكي مالك صيدلية طلب عدم كشف اسمه والاكتفاء بالأحرف الأولى "م.ع"، تفاصيل اتفاق عرضه على أحد الأطباء: "نوفر للطبيب كافة احتياجاته، أجهزة المعامل، ومكان فوق الصيدلية كعيادة، وفي مقابل المريض ينزل يشتري من الصيدلية".
ويضيف: “أنا كسبان في الحالتين سواءً اتفقت معه على الأدوية أو كتب الأدوية بشكل طبيعي، ليست الفكرة اتفاقًا على أنواع أدوية بعينها فهذا الأمر يخص الشركات، ومن الممكن أن يكتب الطبيب أي نوع من الأدوية وأوفرها على الفور، لأستفيد من حجم المبيعات، حيث أحقق ربحًا ما بين 15 إلى 20% كحد أدنى”.
ويوضح صاحب الصيدلية: “في إحدى محافظات الصعيد يمتلك أحد الأطباء مجمعًا طبيًا يضم مجموعة عيادات، قام بفتح صيدلية باسم حفيدته أسفل المجمع لتكون المكان الوحيد لخدمة المرضى المترددين على العيادات، وأحيانًا يصل الأمر إلى إلزام المريض بالشراء من الصيدلية”!

شركات الأدوية على خط الأزمة
يدافع “م.ع عن وجهة نظره قائلًا: “فين الأزمة لمّا يكتب الطبيب الأدوية ويوجه المريض صيدليتي؟ دي استفادة متبادلة”، وهو ما يؤكده أيضًا أستاذ الأمراض الباطنة الدكتور عاطف الشيخ: ”بعض الأطباء بالفعل يتعاونون مع الصيدليات والمعامل مقابل نسبة مالية لكن من حق المريض أن يختار المعمل والصيدلية التي يريدها".
كما أشار إلى بعد آخر في بيزنس الأطباء وشركات الأدوية: “إحدى شركات الأدوية عرضت عدة مرات كتابة أصناف محددة مقابل نسبة شهرية من المبيعات، ووصل الأمر إلى حد طلب الشركة كتابة أدوية للمريض حتى إن لم يكن المريض بحاجة لها".
وتابع الطبيب: “رفضت هذا المقترح تمامًا، إذ لا يمكن أن أفعل شيئًا يخالف ضميري أو يضر بمصلحة المريض”، مؤكدًا أن بعض شركات الأدوية يصل بها الأمر إلى دفع رواتب شهرية للأطباء.
من جانبه، اعتبر مدير المركز المصري للحق في الدواء محمود فؤاد، أن الأمر يعد تجارة على حساب المريض، مؤكدًا أن الأزمة منتشرة خصوصًا في المناطق الشعبية وتتسبب في زيادة أسعار الدواء.
وقال فؤاد إن بعض الأطباء يستغلون المرضى من خلال الاتفاقيات مع المعامل والصيدليات، ما يمثل تجارة بأوجاعهم، مشيرًا إلى أن بعض الأطباء يصرون على صرف أدوية معينة بسبب التعاقدات مع شركات الأدوية ويتجاهلون البدائل ذات السعر المنخفض.
أدوية بـ120 جنيهًا والبديل بـ30!
في بداية شهر سبتمبر الجاري عقدت إحدى شركات الأدوية مؤتمرًا في القاهرة للترويج لبعض منتجاتها، لكن المفاجأة كانت تصريحات رئيس المجلس التصديري للصناعات الطبية محي حافظ، الذي أكد أن الصيدليات تبيع بعض الأدوية بأسعار تصل إلى 120 جنيهًا، بينما هناك أدوية بديلة تقابلها لا يتجاوز سعرها 30 جنيهًا فقط، مطالبًا بضرورة عدم التمسك بالأسماء التجارية عند وصف الدواء للمرضى والاهتمام بالمادة الفعالة فقط.
سوق الدواء في مصر تجاوز 185 مليار جنيه خلال 8 أشهر من العام الجاري بزيادة 47% عن عام 2024 وفقًا لتصريحات سابقة لرئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية علي عوف.
ويتدخل الخبير الاقتصادي أحمد خطاب، مؤكدًا أن هذا البيزنس يجري بعيدًا عن أي رقابة أو ضرائب، إذ إن مثل هذه الممارسات تضر بالمريض، مضيفًا أن بعض الأطباء يطالبون المريض بفحوصات أو تحاليل إضافية غير ضرورية، فقط لأجل الاستفادة من العمولات المقدمة من المعامل، وضرب مثالًا بمريض سكري طُلب منه إجراء “صورة دم كاملة” رغم أنه أجرى التحليل قبل فترة قصيرة وكانت حالته مستقرة.
ويوضح خطاب أن الأمر نفسه ينطبق على شركات الأدوية التي تدعو الأطباء الكبار إلى حفلات مقابل كتابة روشتات تحتوي على منتجاتها بشكل متكرر، حتى وإن وُجدت بدائل من المادة الفعالة نفسها وبسعر أقل.
وأكد أن هذه الاتفاقيات تنعكس سلبًا على دخل الأسر تحديدًا تلك التي ليست تحت مظلة التأمين الصحي، مشددًا على أن بعض الأطباء يتعاملون مع المهنة باعتبارها "بيزنس" يخلو من الرحمة، سواء في إجراء العمليات أو في صرف الأدوية، إذ تدخل غالبية الصيدليات ضمن هذا النظام، باستثناء قلة في القرى والمناطق الريفية.

زيادة أسعار الأدوية
ويشير خطاب إلى أن بعض الصيدليات يلجأ إلى زيادة الأسعار بشكل غير معلن: "لا أحد يخسر في هذه المنظومة إلا المريض"، ويطالب بضرورة وجود نظام تأمين صحي شامل لكل مواطن منذ لحظة ميلاده، باعتبار ذلك الحل الأمثل لحماية المواطنين من هذه الممارسات".
"ارتفاع أسعار الدواء يعود إلى تحميل المريض بمبالغ تنفقها الشركات على الدعاية للأطباء".. هكذا علّق الدكتور محي عبيد نقيب الصيادلة السابق خلال مؤتمر لاتحاد المهن الطبية في عام 2016، مؤكدًا أن الشركات تهدي الأطباء رحلات وهدايا ومؤتمرات، وتحمِّل المواطن والمريض تلك التكاليف على أسعار الدواء.
موقع “مركولا” الطبي الأمريكي أجرى دراسة في عام 2014 أكدت نتائجها أن 9 من بين كل 10 أطباء قلب، و7 من كل 10 أطباء باطنة حصلوا خلال العام ذاته على أموال وهدايا وأجهزة طبيبة، وتنوعت هذه المزايا بين السفر على درجة رجال الأعمال، والوجبات الفاخرة، والمشاركة كمتحدثين في المؤتمرات العلمية.
الدراسة ذاتها أكدت أن الأطباء الذين حصلوا على أكثر من 5000 دولار كانوا الأكثر وصفًا للأدوية الأصليّة "البراند" غالية الثمن التي تنتجها الشركات الراعية، مقارنة بالأطباء الذين لم يتلقوا دعمًا ماديًا، حتى الهدايا الصغيرة مثل الوجبات الغذائية أثرت في زيادة وصف الأدوية الباهظة.
وأظهرت الدراسة أيضًا أن الأطباء الذين يشاركون كمتحدثين في مؤتمرات الشركات وصفوا العدد الأكبر من هذه الأدوية دون الاعتماد دائمًا على معايير طبية موضوعية.
ماذا قال النواب؟
وأقرت عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، الدكتورة إيرين سعيد، بأن اللجنة على علم بانتشار اتفاقيات بين الأطباء والصيدليات ومعامل التحاليل، مضيفة أن هذه الممارسات تعد نوعًا من البيزنس القائم بين هذه الأطراف.
وأوضحت: “طالما أن الطبيب يصف العلاج المناسب للحالة ولا يطلب فحوصات غير ضرورية فإن الأمر يبدو قانونيًا ولا يشكّل مخالفة واضحة، فالمسألة ليست غشًا بقدر ما هي تفضيل لطرف على آخر”.

وأضافت سعيد: “على سبيل المثال، قد يفضل الطبيب أو المريض التعامل مع معمل معين يثق به، وإذا حصل الطبيب في المقابل على نسبة معينة، فهي غالبًا اتفاقات شفهية وليست مكتوبة، ولا توجد عقود رسمية يمكن محاسبتهم بناءً عليها، لذا تظل هذه الممارسات أقرب إلى قضية أخلاقية وليست قانونية".
وذكرت النائبة، أن ما يُعرف بـ"الدِيل Deal" بين بعض الأطباء والصيدليات أو معامل التحاليل يتم غالبًا على نحو شفاهي، دون أي عقود مكتوبة يمكن محاسبتهم عليها قانونيًا، بالتالي يبقى الأمر في نطاق أخلاقيات المهنة، مضيفة أن بعض الأطباء قد يفضلون صيدلية معينة أو شركة أدوية بعينها بحكم الثقة في منتجاتها، أو يحصلون على نسبة مقابل توجيه المرضى إليها، وهو ما يصب في النهاية لمصلحة الطبيب.
لا بلاغات!
وأكدت أن المساءلة القانونية لا تتم إلا في حالة ثبوت استغلال المريض بطلب تحاليل أو أدوية غير ضرورية، وهو ما يخضع لقانون المسؤولية الطبية، مشيرًة إلى أنه لا توجد حتى الآن بلاغات أو شكاوى مباشرة تخص هذا الملف، وغالبية شكاوى المرضى تتركز على ارتفاع أسعار العلاج.
وأوضحت سعيد أن هذه الممارسات لا يجرمها القانون، لكنها تخضع لمواثيق المهنة التي يلتزم بها الأطباء، وحال ثبوت استغلال الطبيب للمريض تحاسبه النقابة، لافتًة إلى أن الكشف عن مثل هذه الاتفاقات صعب كونها تتم من الباطن.
وأضافت أن بعض الأطباء يوجهون المرضى لمعامل معينة إما لثقتهم بكفاءتها أو للحصول على عمولة، بينما توجد معامل غير مرخصة قد تفبرك النتائج، ما يعرّض حياة المرضى للخطر، والأمر يعتمد بالأساس على أخلاقيات الطبيب، وأن لجنة الصحة في البرلمان لا تخطط حاليًا لتشريع جديد بشأن هذه الظاهرة، لكن يمكن النظر في الأمر مستقبلًا إذا تنامت الشكاوى.

الأكثر قراءة
-
برواتب تصل لـ1800 درهم.. “العمل” توفر 195 فرصة عمل بالإمارات
-
الإجابات الضائعة عند حسين الشحات
-
بيزنس خفي في العيادات.. أطباء يخدعون مرضاهم بـ"اتفاق شفهي" مع الصيدليات والمعامل
-
هاجم عبدالناصر وسخر من حرب أكتوبر.. كتاب تاريخ سوري في مرمى السهام
-
بعد 4 أيام.. استخراج آخر ضحايا حريق مصنع المحلة
-
"الشاي الصعيدي".. مزاج للمصري وخط دفاعي ضد الأمراض
-
راكب يأكل جواز سفره.. 15 دقيقة جنونية تجبر طائرة على الهبوط
-
"حبوب في اليدين".. تفاصيل انتشار فيروس HFMD بمدرسة ألسن سقارة (خاص)

أخبار ذات صلة
هاجم عبدالناصر وسخر من حرب أكتوبر.. كتاب تاريخ سوري في مرمى السهام
30 سبتمبر 2025 12:28 م
قبل مناقشتها بالنواب.. 8 مواد رفضها السيسي بـ"الإجراءات الجنائية"
30 سبتمبر 2025 01:15 م
قمة "التنويم المغناطيسي".. كيف تلاعب النحاس بـ"عقل" فيريرا؟
29 سبتمبر 2025 11:48 م
علي حسين مهدي يكشف لـ"تليجراف مصر" سر عودته: حاربونا في أمريكا بالضرائب والنساء (انفراد)
29 سبتمبر 2025 02:38 م
"زيزو الأهلاوي × شحاتة الزملكاوي".. الزعيم والأستاذ في ميدان الكرة والسينما
29 سبتمبر 2025 05:18 م
طرائف قمة الأهلي والزمالك.. غيبوبة بيبو ومبخرة إبراهيم سعيد وكفن رضا
29 سبتمبر 2025 04:12 م
الأهلي والزمالك.. كلاسيكو "العرب" صراع الألوان والهوية والسياسة
29 سبتمبر 2025 02:50 م
علي حسين مهدي يعتذر للسيسي في حوار حصري لـ"تليجراف مصر".. والسر في "صفقة القرن" (انفراد)
29 سبتمبر 2025 12:01 م
أكثر الكلمات انتشاراً