البطل الحالم في أدب الإسلامويين.. رواية الظل الأسود نموذجا
يعد نجيب الكيلاني (1931 - 1995) واحدا من أبرز الأدباء الإسلامويين في القرن العشرين. التحق بجماعة الإخوان في أعقاب اغتيال مؤسسها حسن البنا عام 1949، سيق إلى السجن عام 1954 بعد محاولة الإخوان اغتيال جمال عبد الناصر في المنشية وظل فيه لأكثر من ثلاث سنوات، وعاد إليه مرة أخرى عام 1965 وقبع فيه نحو عام.
في فترة سجنه الأولى كتب الكيلاني أولى رواياته، وتتابع إنتاجه حتى كاد يصل إلى أربعين. اهتم بالتنظير لما سماه "الأدب الإسلامي" وألف في ذلك أكثر من كتاب.
في كتابه "مدخل إلى الأدب الإسلامي" يصرح الكيلاني بالأساس الأيديولوجي الذي بنى عليه تلك التسمية: "الإسلام ليس فلسفة تجريدية ولا منهجا فضوليا، يُسمح له بالولوج إلى جهة ويُمنع من الدخول إلى جهة أخرى؛ بل هو صيغة شاملة كاملة تغطي جوانب الحياة كلها". متابعا في ذلك خطى مؤسس الإخوان حسن البنا، وهو يحدد لأتباعه في رسالة التعاليم ملامح فهمه للإسلام، طالبا منهم مبايعته عليها، يقول البنا في هذا السياق: "الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعا".
من هذا المنطلق يتحدث الكيلاني في كتابه منظّرا: "والأدب الإسلامي يحرص أشد الحرص على مضمونه الفكري النابع من قيم الإسلام العريقة، ويجعل من ذلك المضمون ومن الشكل الفني نسيجا واحدا معبرا أصدق تعبير، ويعوّل كثيرا على الأثر أو الانطباع الذي يترسب لدى المتلقي، ويتفاعل معه ويساهم في تشكيل أهوائه ومواقفه وحركته الصاعدة أو المتدفقة إلى الأمام".
ويتابع الكيلاني مبينا سبب التسمية: "وكان منطقيا أن نطلق على هذا الأدب مصطلح الأدب الإسلامي، تماما كما وضع المسلمون مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بتلك القيم؛ كمصطلحات الفقه الإسلامي والاقتصاد الإسلامي والحكم الإسلامي والتاريخ الإسلامي والفتوحات الإسلامية… إلخ".
وتبرز أهمية "البطل" كعنصر أساسي في العمل الأدبي المسمى "إسلاميا"؛ إذ هو، بحسب الكيلاني، تجسيد لمعان معينة أو رمز لدور من أدوار الحياة وخاصة الهامة منها. يقول متحدثا عن صورة ذلك البطل: "إننا لن نجد صعوبة تُذكر في وضع التصور الملائم لذلك؛ فالبطل إسلاميا هو القدوة أو النموذج أو المثال الحي الذي تتجسد فيه القيم الإسلامية، هذه ناحية هامة، لكنها لا تغلق الباب أمام نموذج الضعف البشري أو البطولة الناقصة التي تحتاج إلى تجربة ومعاناة وهي في طريقها إلى النمو والاكتمال".
من ثم يصبح البطل في العمل الأدبي هو حامل الفكرة التي يراد تقديمها للمتلقي؛ بهدف الإقناع والتأثير، يقول الكيلاني: "إن البطل، كما قلنا، تجسيد لفكرة يرى الكاتب إبرازها لتؤدي دورا تمتزج فيه المنفعة بالمتعة لدى المتلقي؛ فيتفاعل معها ويتأثر بها، ومن ثم تتولد لدى ذلك المتلقي قناعات بعينها قد تدفعه إلى اتخاذ موقف".
في رواية "الظل الأسود" الصادرة في سبعينيات القرن العشرين؛ يجد الكيلاني بغيته في شخصية الإمبراطور الحبشي الأسبق ليدج إياسو، الذي حكم بلاده بين عامي 1913 و 1916، قبل أن تتم الإطاحة به، ثم يسجن ويموت في محبسه.
في كتابه "الإسلام في الحبشة" المصنف عام 1935 يقدم لنا يوسف أحمد صورة عن أحوال المسلمين في تلك الحقبة: "إن الإسلام في الحبشة يمشي زاحفا على أرض شائكة". ويشرح تفصيلا السياقات التاريخية التي أدت إلى ذلك: "إن العلاقات التاريخية بين المسلمين والأحباش كانت ولم تزل علاقات غير محمودة… فمن بزوغ القرن الثامن الهجري إلى عهد قريب ونار الشقاق مستعرة بين الطرفين".
ويتوقف مليا عند اللحظة التي تولى فيها النجاشي منليك حكم الحبشة وآلى على نفسه أن يخضع جميع الممالك الإسلامية والبلاد الوثنية المتاخمة للهضبة الحبشية، ومنها مقاطعة "وللو" التي كان يتزعمها محمد علي، فلما انتصر عليه منليك دفعه دفعا إلى التنصر والزواج بابنته، التي أنجبت له إياسو، وريث العرش، المتهم فيما بعد بالارتداد عن ديانته المسيحية، ما أعطى مبررا لعزله.
في السطور الأولى للرواية يبدو إياسو في حالة صراع داخلي، بين مقتضيات عرش ورثه ويحتم عليه التنكيل بالمسلمين، وبين واجبات إيمان لا يستطيع البوح به؛ يكاد يمتنع عن مقابلة الأنبا ميتاوس الواقف ببابه، فيذكره والده ميكائيل / محمد علي سابقا بواقعه: "أي ولدي العزيز إياسو.. لا تنس أنك نجاشي الحبشة وإمبراطورها العظيم، ولا تنس في الوقت نفسه أن الأنبا ميتاوس هو مطران الحبشة وصاحب النفوذ الضخم في أرجاء البلاد". تسيطر العاطفة على إياسو ويصرخ: "لقد برمت هذا النفاق.. إنني أكرهه". فيجيبه ميكائيل في هدوء: "وأنا مثلك أكره هؤلاء الأوغاد… لكن عليّ أن أحتفظ باسمي الجديد حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا… أنا لا أخاف على حياتك أو حياتي، بل كل ما أفكر فيه هو أولئك الملايين من المسلمين الذين يسكنون روابي الحبشة وسهولها وقراها ومدنها".
تضع رواية الظل الأسود قارئها أمام نمطين لهما الأفكار والأهداف ذاتها، لكنهما مختلفان في طريقة العمل؛ نمط حالم تغلبه العاطفة ونمط واقعي يركز على الإنجاز، يمثل إياسو النمط الأول، بينما يجسد ميكائيل النمط الثاني.
وتبرز الرواية في غير موضع ذلك الفارق بوضوح؛ بعد مقابلة الأنبا ميتاوس يهتف إياسو: "سأعلنه على الملأ.. فإما أن أنتصر أو أموت دونه". فيجيب ميكائيل: "أي ولدي.. لا تحاول قطف الثمرة قبل أن يكتمل نضجها، ستكون فجة مرة المذاق.. ومستقبل ملايين المسلمين أمانة في أيماننا.. اذكر هذا ولا تقع في حبائل الاندفاع".
لا يستطيع إياسو كتمان مشاعره أمام زوجته المسيحية: "أي زوجتي المسكينة! إنك ضحية مثل أولئك المسلمين التعساء تماما.. هم تراق دماؤهم بسيف البغي.. وأنت تراق إنسانيتك بسيف الوهم والتعصب ونصائح الرهبان والقساوسة". بينما يداري ميكائيل عندما تذكّره زوجته برفضه قبل سنوات زواج ابنته من الرأس تفري حاكم ولاية سيدامو لأنه مسيحي متعصب؛ يقول متلطفا: "لم أقصد ذلك بالضبط، لكني لا أثق في ذلك القاسي القلب". ويضيف مثنيا عليها وعلى أبيها: "إن ملامحه (إياسو) التي تشبه أباه لا تعني تجاهل أمه وجده.. إنه مدين لكما بالكثير.. بوجوده أولا.. وبهذا العرش ثانيا".
ما زال ميكائيل يحاول كبح جماح إياسو، حتى يتفقا على التمهيد للإجراء الحاسم بجولة طويلة في أرجاء البلاد؛ للتعرف على أحوالها والتقرب إلى أهلها. لكن إياسو يقفز على مراحل الخطة ويعلن أثناء جولته التمهيدية أنه "لا اعتراض على إقامة بيوت الله أكانت للمسلمين أو المسيحيين". يحذره أحد مستشاريه من إثارة نقمة الكنيسة وتأليب الرأي العام المسيحي، فيرد غاضبا: "لن تستطيع أية قوة أن تطرد فلاحا من أرضه"، ويتحدى سفراء الدول الغربية: "يجب أن يراعوا أصول الضيافة وتقاليدها العريقة، دون تدخل في سياستنا الداخلية والخارجية وشئوننا الخاصة".
يعلق الراوي بما يشي بترجيح الكاتب لنمط إياسو: "وهكذا وجد إياسو نفسه في وضع لا يسمح له بالتخفي بعد اليوم، يجب أن يعلن على الملأ إسلامه.. ولو كان ثمن ذلك أن يضحي بعرشه وبحياته.. لن يسجن نفسه وفكره في سجن الخوف والاختفاء بعد اليوم، لن يمضي في نفس الطريق الذي مضى فيه أبوه.. إن إياسو غير ميكائيل.. غير محمد علي".
لم يكتف إياسو بتغييراته الحادة في السياسة الداخلية، بل غيّر تحالفات بلاده الخارجية وانحاز إلى تركيا وحلفائها في الحرب العالمية الأولى، وخرج في جولات لتجميع السلاح والمقاتلين، أبعدته عن العاصمة أديس أبابا، ما منح خصومه فرصة لإزاحته وتنصيب خالته زوديتو إمبراطورة على الحبشة، بتدبير من الأنبا ميتاوس والرجل الأقوى في البلاد الرأس تفري.
حذره ميكائيل كثيرا قبل الإقدام على تلك الخطوة: "إن انهماكك في الاستعداد الحربي قد يعطي فرصة للطامعين… ولهذا كنت أفضل الحياد وعدم الاشتراك الفعلي في الحرب". ويأتي صوت الراوي شارحا نمط إياسو في مواجهة نمط ميكائيل: "لشد ما يكره إياسو الحياد في مثل هذه الأمور، إن عليه أن يختار بين الحق والباطل؛ بين منطق المكسب والخسارة ومنطق المثل العليا".
زوجة إياسو الثانية المسلمة تواسيه وفق نمطه: "هم يتآمرون عليك يا إياسو لأنك رجل حر شريف مؤمن"، بينما لميكائيل تفسير يلائم نمطه الواقعي: "حاولت إفهامه أن السياسة حيطة ومداراة ويقظة وعملية حسابية دقيقة ومقدمات تؤدي إلى نتائج، لكن لم يكن حريصا على شيء بقدر حرصه على أن يعبر عما يعتلج في قلبه من مثل عليا وأن يضعها موضع التنفيذ".
وصلت الأنباء الحزينة إلى إياسو وهو بعيد عن عاصمة ملكه المفقود؛ فألقى باللائمة على الجماهير: "وأين الشعب؟ أين هذا الدرع الواقي؟ كنت صديقا للجميع؛ فلم لا يحطم الشعب مؤامرة المتآمرين؟!". ثم يسأل أتباعه: "هل ترونني أخطأت؟"، فيجيبونه على شاكلة نمطه: "أيها الإمبراطور المؤمن.. لا تجعل النكبة تسيطر عليك… ما أكثر ما يتعرض المؤمنون للابتلاء والامتحان الشديد… لكنهم في النهاية ينتصرون".
يمضي إياسو في طريق المقاومة محاولا العودة إلى الحكم، حتى يقع أسيرا بعد خمس سنوات، فيقول موجها خطابه إلى الرأس تفري: "إنك لم تحقق نصرا نهائيا بعد، لقد استطعت أن تسرق النصر الظاهري وتستولي على الأرض… واستطعت أن تأخذني أسيرا، لكن الشعب في صمته أعلى هديرا منك، والشعب برغم صمته لم يزل صامدا مترقبا اللحظة الحاسمة".
يتمكن إياسو من الهرب بعد سنوات يصبح فيها تفري إمبراطورا يحمل لقب هيلا سيلاسي، لكنه سرعان ما يسقط في الأسر مرة أخرى، وتتسارع الأحداث العالمية ويوشك الإيطاليون أن يسيطروا على الحبشة؛ فيضطر هيلا سيلاسي إلى الهرب خارج البلاد بعد أن يقتل إياسو في محبسه.
ولا ينهي الكيلاني روايته قبل أن يبكي بطله بما يليق: "ودارت الأيام، فتحول إياسو إلى أسطورة تتناقلها الأجيال.. وبقي حيا في القلوب وسيبقى إلى أبد الآبدين".
بهذه الطريقة يقدم الكيلاني نمط البطولة الذي يود أن يسود؛ إنها بطولة تفترض تعارضا بين المثل العليا ومنطق المكسب والخسارة، بطولة تنشغل بإثبات الموقف أكثر مما تنشغل بتحقيق النتائج، بطولة لا ترى بأسا من فقدان الربح المادي ما دام الضمير مرتاحا بعدما فعل ما يظنه واجبا.
الأكثر قراءة
-
شقة مستأجرة وسم في العصير، ضبط المتهم بإنهاء حياة سيدة وصغارها بالهرم
-
شك في السلوك ومحضر تغيب، تفاصيل جديدة بجريمة "أطفال الهرم"
-
"بنتي وبربيها"، طريقة خطف جديدة للفتيات بمنطقة 800 فدان في أكتوبر
-
بطولة محمد سلام، موعد عرض مسلسل "كارثة طبيعية"
-
تعذيب في الحمام، أم تقيد طفليها بالحبال وأمن الغربية يتحرك
-
"إنت اللي لوحدك شبهي"، "مكي" و"سلام" قصة صداقة خارج النص
-
إذاعة مدرسية عن المتحف المصري الكبير كاملة بالفقرات
-
"الخبر الفوري" يحصل على ترخيص "الأعلى لتنظيم الإعلام"
أكثر الكلمات انتشاراً