الجمعة، 31 أكتوبر 2025

10:43 م

إعادة الاعتبار للتناحة الزوجية: دفاعا عن الصمت والتجاهل

ليست كل "تناحة" داخل الحياة الزوجية جمودًا أو نقصًا في الحب، فبعضها شكل من أشكال الحكمة، ومهارة نفسية تُمارسها القلوب حين يرهقها الصخب العاطفي، خاصة عندما تتلاحق فيه الأزمات وتتراكم فيه الضغوط، يصبح الصمت واللامبالاة المحسوبة ضرورة لا ترفًا. فالتناحة في بعض المواقف ليست انسحابًا، بل استراحة من الإنهاك، ووقفة تستعيد فيها العلاقة أنفاسها قبل أن تختنق بالتفاصيل.

الزوج الذي يختار الصمت ليس دائمًا باردًا، بل ربما يعرف أن الكلام في لحظة الغضب كصبّ الزيت على النار. والزوجة التي تتجاهل موقفًا مستفزًا لا تفعل ذلك ضعفًا، بل لأنها تعلم أن الرد سيزيد اتساع الفجوة. كلاهما يمارس “تناحته” على طريقته: هو بالصمت، وهي بالتغافل، لكن الهدف واحد، أن تمر العاصفة بأقل الخسائر الممكنة.

في العلاقات الطويلة، لا يبقى الحب متوهجًا كل الوقت، بل يتحوّل إلى طاقة هادئة تحتاج إلى إدارة واعية. والتناحة هنا ليست قسوة، بل أسلوب صيانة للعاطفة من التآكل. فحين تُرهق التفاصيل اليومية الطرفين، يصبح بعض التجاهل أحيانًا شكلاً من أشكال الحب. ليس لأن أحدهما لم يعد يهتم، بل لأنهما يدركان أن الحفاظ على البيت أهم من كسب كل جدال.

الحديث المستمر والمكاشفة الدائمة لا تعني بالضرورة أن العلاقة صحية. في بعض الأوقات، يكون الصمت أعمق من الكلام، والمراوغة الهادئة أصدق من المواجهة القاسية. فالكلمة التي تُقال في لحظة غضب قد تترك أثرًا يصعب محوه، بينما الصمت في لحظة توتر قد ينقذ ما تبقى من دفء. وهكذا تتحول التناحة من تهمة إلى وسيلة بقاء، ومن صفة سلبية إلى مهارة عاطفية تمارسها القلوب الناضجة.

الزوجة التي تكتفي بالنظر دون تعليق، تمارس نوعًا من التناحة الراقية؛ تمنح نفسها وقتًا لتفهم قبل أن تحكم، وتؤجل المواجهة حتى تهدأ نبرتها فلا تجرح. والزوج الذي يتجاهل الموقف ولا يرد على استفزازها، لا يفعل ذلك استعلاءً، بل لأنه اختار الحفاظ على العلاقة بدلًا من كرامة لحظة. هذه المساحات الصغيرة من التغافل هي التي تبقي العلاقات طويلة العمر.

في البيوت التي تعلم أصحابها قيمة الصمت، تتراجع المشاحنات، ويحلّ مكانها نوع من الفهم الضمني، لغة صامتة تُترجمها النظرات أكثر مما تعبّر عنها الكلمات. فالتناحة ليست هروبًا من المواجهة، بل وعيًا بأن بعض المعارك لا رابح فيها، وأن الانفعال المفرط يُطفئ أجمل ما في العلاقة من مودة.

لكن بين التناحة الناضجة والتجاهل المؤذي خيط رفيع. الأولى تنبع من الرغبة في تهدئة الأجواء وحماية العلاقة، أما الثانية فتنبت من أرض البرود والإهمال. فالتناحة الناضجة لا تُهين الطرف الآخر ولا تُقصيه، بل تمنحه مساحة آمنة ليهدأ ويعود إلى الحوار من جديد. إنها اختيار مؤقت يُمارَس من موقع الحب، لا من موقع الاستعلاء.

التناحة إذن ليست دعوة للجمود، بل تذكير بأن المبالغة في ردود الفعل تُتعب، وأن الإصغاء إلى الصمت أحيانًا أصدق من ألف نقاش. هي قرار داخلي بأن نحب بهدوء، ونحمي ما بيننا من التآكل بكثير من التغافل وكثير من الصبر.

فكم من علاقة انهارت لأنها لم تعرف متى تصمت، وكم من علاقة نجت لأنها امتلكت حكمة التوقيت. في النهاية، ليست العلاقات الطويلة هي تلك التي لا تمر بالأزمات، بل التي تعرف كيف تتجاوزها بأقل الضجيج.
لا بأس أن نمارس التناحة أحيانًا، أن تصمتا بدل المواجهة، وأن تؤجلا النقاش حتى يهدأ الغضب. فالحب ليس صخبًا دائمًا، ولا يحتاج كل موقف إلى ردٍّ فوري. خذا من الصمت فسحة لترتيب المشاعر، ومن التغافل وقتًا لحماية المودة. التناحة ليست ضعفًا ولا انسحابًا، بل وعيٌ بأن البقاء سهل إن أتقنّا فن التجاهل الرحيم.

search