"المُز" الذي أوقعني في شرّ وسامته
لا شيء يكشف هشاشة العلاقات الإنسانية كما تفعل الأحداث الصغيرة التي يُفترض أنها لا تستحق أكثر من ابتسامة عابرة. ومع ذلك، نجد أنفسنا في قلب عاصفة اجتماعية اشتعلت من تعليق إلكتروني بسيط، صعد إلى ترند، وانتهى إلى بيوت تُغلق أبوابها على صمت الانفصال. الحدث الذي هزّ السوشيال ميديا لم يكن سياسيًا ولا كارثيًا، بل صورة لطبيب نفسي أعلن عن افتتاح عيادة جديدة، وإذا بالمفاجأة تبدأ مع تعليقات نساء رأين في ملامحه شيئًا يسمونه «وسامة»، وأطلقن كلمات خفيفة في خانة التعليقات، ظنًا منهن أنها لا تحمل أكثر من مزاح خفيف أو تفاعل سريع.
ثم يظهر رجل لا نعرف اسمه ولا قصده، يلتقط هذه التعليقات، يجمعها ويرسلها إلى أزواج هؤلاء النساء وخُطابهن. وبعد ساعات قليلة تتحول الصورة إلى حدث وطني، وتتحول التعليقات إلى شرارة انفجارات عائلية، ويتحول الزواج إلى حسبة دقيقة يمكن أن تسقط بأخف كلمة، وتتحول الثقة إلى ورقة قابلة للتمزق بأصابع شخص مجهول.
انتشرت قصص الانفصال وكأنها انتصارات صغيرة يعلنها بعض الرجال على صفحاتهم، وامتلأت المنصات بحكايات طلاقات تمت على وقع «سكرين شوت». هنا يتجلى السؤال الأكبر: كيف استطاعت جملة مكتوبة في تعليق أن تهدم بيتًا؟ وكيف تمكنت صورة واحدة على صفحة عامة من الكشف عن عطب اجتماعي كان مختبئًا تحت السطح؟
الطبيب نفسه لم يكن يتخيل أن صورة عادية ستتحول إلى محاكمة اجتماعية يتصدرها اسمه. جزء من الجمهور حمّله المسؤولية الكاملة، وجزء آخر اتهم النساء اللاتي علّقن بالخفة، وفريق ثالث اعتبر أن المشكلة ليست عند الطبيب ولا عند المعجبات، بل عند الرجال الذين حوّلوا حدثًا بسيطًا إلى معركة من أجل «الكرامة».
ولعل ما أشعل الحريق أكثر هو الإحساس الجارف لدى بعض الرجال بأن التعليقات مسّت مكانتهم أمام أنفسهم قبل الآخرين. لم تعد المسألة تعليقًا عابرًا، بل تحولت إلى جرح ذكوري مفتوح يتلاقى مع ثقافة مجتمعية ترى في كلمة إعجاب خيانة صامتة، حتى لو لم تتجاوز حدود المزاح أو التفاعل السطحي.
الجزء الأكثر خطورة في القصة لم يكن التعليقات ذاتها، بل السلوك الذي جعل رجلًا يبحث في تعليقات النساء، يقتنصها، ثم يرسلها إلى أزواجهن وخطّابهن وكأنه يقدم بلاغًا رسميًا. هذا السلوك يكشف خللًا مجتمعيًا حقيقيًا:
غياب حدود الأخلاق الرقمية
استعداد بعض الرجال للتربص بالنساء لمجرد إحراجهن.
تحويل المنصات الاجتماعية إلى ساحة مراقبة تتربص بكل كلمة.
الغيرة هنا ليست غيرة عادية، بل غيرة مشحونة برغبة في السيطرة وإثبات القوة وإظهار المرأة كأنها مشروع خطأ مستمر يحتاج دائمًا إلى مراقبة وانضباط.
من السهل أن نتسرع ونحمل النساء خطأ التعليق، لكن القراءة الموضوعية تقول غير ذلك. المرأة بطبيعتها تميل إلى إبداء الإعجاب بطريقة اجتماعية، قد تكون مزاحًا، أو مجاملة، أو تفاعلًا لا يمتلك العمق الذي يتصوره الرجال. طريقة تعبير المرأة مختلفة، وكمية التأويل التي تُلبسها الثقافة الذكورية لكلماتها أكبر بكثير من نيتها.
ومع ذلك، تبقى هناك مسؤولية بسيطة: اختيار الألفاظ. فالعالم الرقمي لا يحمل روح الضحك التى تصاحب الكلام في الواقع. ما يُقرأ على الشاشة يفتقد النبرة، والملامح، والسياق. والكلمة التي تُكتب على الملأ تصبح قابلة للتفسير بألف طريقة.
لكن هذا لا يعني –ولا بأي حال– أن تعليقًا عابرًا يجعل المرأة «خفيفة» أو «سيئة السمعة»، فالمعايير القديمة التي تُدين المرأة وحدها لم تعد تصلح لزمن العلاقات الحديثة. المشكلة ليست في التعليق؛ المشكلة في مجتمع يتعامل مع المرأة كأنها تمشي فوق حقل ألغام
جزء آخر من الجدل ينطلق من فرضية تقول إن كل ما حدث «مصنوع» و«مقصود»، وإن الطبيب ربما أراد أن يصنع ضجة حول عيادته. قد لا نعرف الحقيقة، لكن من حقنا أن نتساءل:
هل من المهني والأخلاقي أن يستخدم طبيب نفسي مظهره للترويج لنفسه؟
المهنة التي تقوم على الثقة، والعلم، والخصوصية، تحتاج إلى خطاب أكثر اتزانًا من خطاب المؤثرين.
حتى لو لم يكن يقصد ذلك، فإن طريقة ظهور الطبيب على الملأ جعلت البعض يشك في هدف الإعلان، خصوصًا أن المجتمع أصبح يتعامل مع الوسامة كمادة قابلة للتسليع. وسامة الرجل اليوم تُستخدم كما تُستخدم وسامة المرأة في عالم التسويق، دون مراعاة فرق السياق والوظيفة والمسؤولية
القصة كلها، من بدايتها إلى نهايتها، تكشف أن العلاقات الزوجية ليست صلبة كما نظن. القدرة على هدم بيت بسبب تعليق واحد تعني أن البيت كان هشًا من البداية.
تعني أن الثقة لم تكن راسخة، وأن المرأة كانت تمشي فوق جمر صامت، وأن الرجل كان يحمل خوفًا عميقًا من المقارنة، أو شكًا دفينًا في نفسه قبل زوجته.
إن الزوج الذي ينهار بهذا الشكل لا يحتاج تعليقًا لينفجر، بل ينتظر فقط أي سبب يبرر هروبه من علاقة لا يعرف كيف يديرها
لم تعد المنصات وسيلة تواصل، بل تحولت إلى محكمة شعبية. الجميع يراقب الجميع، والجميع مستعد لإطلاق الأحكام دون أن يعرف التفاصيل.
حدث صغير يتضخم، وكلمة عابرة تصبح قضية، والفضيحة تنتقل بسرعة الضوء من هاتف إلى هاتف.
الخطير هنا ليس الحدث نفسه، بل تعوّد المجتمع على تحويل حياة الناس الخاصة إلى محتوى.
لم يعد الانفصال قرارًا يتم داخل البيت، بل إعلانًا يكتبه الرجل أو المرأة على صفحاتهم، ثم يتحول الجمهور إلى قضاة يصفقون لهذا ويهاجمون تلك.
الوسامة مفهوم واسع لا يُقاس بملامح فقط. هي طريقة حضور، وصوت، وحدود، ومسافة آمنة بين المهني وشكله.
وإذا كان الطبيب قد ظهر في صورة ترويجية بملامح جذبت الإعجاب، فهذا ليس خطأ بذاته، لكن الخطأ يأتي عندما تتحول الملامح إلى «أداة دعاية»، وتُقدّم المهنة الحساسة باعتبارها «منتجًا بصريًا».
المجتمع يتغير، لكن التغيير يجب أن يبقى داخل حدود تحفظ قيمة المهنة وأخلاقها. الطبيب ليس مؤثرًا، ولا ينبغي أن يتعامل مع عيادته كصفحة ترويجية تعتمد على الشكل
أزمة القيم الرقمية
ما حدث ليس مجرد ضجة، بل درس اجتماعي: نحن نعيش في عالم رقمي بلا سياج أخلاقي.
كلمة صغيرة تهز بيتًا.
صورة واحدة تُلهب مجتمعًا كاملًا.
تعليق عابر يتحول إلى طلاق.
شخص مجهول يمكنه تفكيك علاقات عمرها سنوات بمجرد ضغطة «سكرين شوت».
الناس لم تعد تتحدث مع بعضها، بل تتجسس على بعضها. لم تعد العلاقات تُبنى على الحوار، بل على الخوف من التقاط صورة أو تعليق.
لا يمكن لعلاقة مكتملة أن تسقط أمام تعليق.
ولا يمكن لثقة حقيقية أن تهتز بسبب صورة.
ولا يمكن لمجتمع ناضج أن يعيش على وقع الفضائح المصنوعة.
إن ما حدث ليس عن طبيب ولا عن نساء علقن ولا عن رجال غضبوا، بل عن مجتمع يعيش على منصة مضاءة دائمًا، لا يعرف الخصوصية، ولا يمنح العلاقات مساحتها التنفسية.
المقال لا يدافع عن الطبيب، ولا يهاجم النساء، ولا يبرر تصرف الرجال. المقال يضع إصبعه على النقطة الأعمق:
نحن نعيش في مجتمع لا يعرف إدارة مشاعره، ولا فهم طبيعته، ولا حماية علاقاته من كلمة تُكتب في لحظة عابرة.
ولعل العنوان يحمل المعنى كله… «المُز… الذي أوقعني في شرّ وسامته»، لم يكن عن وسامة رجل، بل عن هشاشة مجتمع.
الأكثر قراءة
-
جدول مواعيد مباريات كأس العرب 2025 حتى المباراة النهائية
-
33 عائلة وقعت في الفخ، عصابة زعيمها مجهول لـ"تقشيط" الأثرياء بطريقة مبتكرة
-
أحمد المطحنة ضحية "كارثة إيصالات الأمانة": التهديدات علنية وعايشين في كابوس
-
موعد مباراة السودان والعراق في كأس العرب والقنوات الناقلة
-
موعد مباراة البحرين والجزائر اليوم في كأس العرب والقنوات الناقلة
-
مشاهدة مباراة برشلونة وريال بيتيس بث مباشر
-
موعد مباراة مصر والإمارات في كأس العرب والقنوات الناقلة
-
حالة الطقس غدًا الأحد 7 ديسمبر 2025، انخفاض في الحرارة وأمطار بعدة مناطق
مقالات ذات صلة
المسافة الخفية بين حاجات المرأة وطريقة فهم الرجل
28 نوفمبر 2025 08:14 ص
لما الكبير يتدخل لإيقاف المهازل
21 نوفمبر 2025 08:44 ص
امنحوا المتصابي فرصة أخرى للحاق بالحياة
14 نوفمبر 2025 08:30 ص
العطاء الذي لا يُقابله شيء
07 نوفمبر 2025 08:01 ص
أكثر الكلمات انتشاراً