الثلاثاء، 04 نوفمبر 2025

04:41 م

الجهل طريق الاكتشاف.. أهمية الغباء في البحث العلمي؟!

في عدد يونيو عام 2008 من "مجلة علوم الخلايا"، كتب العالم الأمريكي مارتن شوارتز مقالا أثار اهتمام الأوساط الأكاديمية والعلمية بعنوان أهمية الغباء في البحث العلمي، أي "أهمية الشعور بالغباء في البحث العلمي"، تناول فيه فكرة غير مألوفة لكنها شديدة العمق، وهي أن الشعور بالغباء ليس دليل ضعف الباحث أو فشله، بل هو جوهر العملية العلمية ذاتها ومفتاح كل اكتشاف حقيقي.

في هذا المقال الجريء لا يتحدث شوارتز عن الغباء بمعناه السلبي، بل يعيد تعريفه ليصبح رمزا للجرأة على مواجهة المجهول، وتحمل لحظات الشك والارتباك التي تصاحب البحث العلمي الحقيقي، فالجهل هنا ليس نهاية الطريق بل بدايته، إذ إن الباحث لا يبدأ اكتشافه إلا عندما يعترف بحدود معرفته ويقرّر أن يغوص فيما لا يعرفه.

يستهل شوارتز مقاله بحكاية شخصية مؤثرة، فقد التقى صديقة قديمة تركت برنامج الدكتوراه لأنها كانت تشعر بالغباء المستمر رغم أنها كانت من ألمع من عرفهم، هذه الحكاية دفعته إلى تأمل تجربته الذاتية ليكتشف أنه هو الآخر يشعر بالغباء كل يوم، لكنه تعلم أن يتصالح مع هذا الإحساس بل ويبحث عنه عمدا لأنه جزء لا يتجزأ من مهنة البحث.

يقول شوارتز بوضوح إن العلم بطبيعته تجربة في المجهول، فحين ينتقل الباحث من مرحلة الدراسة النظرية إلى مرحلة البحث، لا يعود أمامه كتاب يحتوي على الإجابات الصحيحة ولا امتحان يمكن التنبؤ بنتائجه، فكل تجربة هي مغامرة جديدة، وكل سؤال هو اقتحام لأرض غير مطروقة من قبل، وهذا ما يجعل البحث العلمي أصعب بكثير من أي اختبار أكاديمي وأعظم في قيمته.

ويشير الكاتب إلى أن نظام الدراسات العليا في كثير من الجامعات لا يعد الطلاب نفسيا لمواجهة هذا الواقع، فالطلاب اعتادوا على التفوق والنجاح في بيئة تقيمهم وفق الإجابات الصحيحة، في حين أن البحث العلمي يقيمهم بمدى قدرتهم على طرح الأسئلة الصحيحة لا على معرفة الأجوبة مسبقا، لذلك يرى شوارتز أن المؤسسات الأكاديمية تقصّر في إعداد طلابها لتحمل ما يسميه الغباء المنتج (productive stupidity)، أي ذلك النوع من الجهل الذي يفتح أبواب الفهم، لا ذاك الذي يعكس الكسل أو الإهمال.

وفي واحدة من أكثر فقرات مقاله عمقا، يروي شوارتز واقعة من مسيرته العلمية حين لجأ إلى العالم الكبير هنري تاوب الحاصل على جائزة نوبل ليساعده في مشكلة علمية، ففوجئ بأن تاوب لا يعرف الحل، كانت تلك اللحظة فارقة في وعيه إذ أدرك أن لا أحد يعرف الإجابة، وأن هذا هو معنى البحث الحقيقي، فلو كانت الإجابات معروفة لما سمي الأمر علما جديدا أو اكتشافًا، ومن تلك اللحظة أصبح تقبل الجهل بالنسبة له تحررًا لا عيبًا.
ويذهب شوارتز أبعد من ذلك ليقول إن امتحانات الدكتوراه أو مناقشات الرسائل يجب ألا تقاس بمدى معرفة الطالب للإجابات الصحيحة، بل بمدى وصوله إلى النقطة التي يبدأ فيها بالقول: لا أعرف، فهذه اللحظة ليست فشلا بل اختبار لحدود المعرفة، وهي النقطة التي يبدأ منها التفكير العلمي الناضج.

الرسالة الجوهرية في مقال شوارتز أن البحث العلمي ليس ميدانا لإثبات الذكاء بل لاكتشاف الجهل، فكل تجربة جديدة تضع الباحث أمام منطقة مظلمة من المعرفة، ولا سبيل إلى اجتيازها إلا بالشعور بالارتباك والخطأ والمحاولة والتعلم المستمر، ومن هنا يصبح «الغباء» بمعناه الإيجابي شرطًا أساسيًا للإبداع.

ويختم شوارتز فكرته بدعوة إلى إعادة النظر في الطريقة التي نعلم بها طلاب العلوم، فبدلا من التركيز على الحفظ والإجابات الصحيحة يجب أن نعدهم نفسيا لتقبل الغموض والخطأ والتجريب المتكرر، لأن العقل الذي يخاف من الشعور بالغباء لن يجرؤ أبدًا على اكتشاف الجديد.

إن مقالة مارتن ليست مجرد تأمل شخصي في تجربة علمية، بل هي بيان فلسفي عن جوهر البحث والمعرفة، فهي تعيد تعريف الذكاء نفسه لا بوصفه معرفة مسبقة، بل قدرة على المضي في المجهول بثقة وتواضع، ومن ثم فإن أعمق ما يمكن أن يصل إليه العالم هو أن يدرك أنه رغم كل ما تعلمه لا يزال يجهل الكثير، وأن في هذا الجهل تكمن بذرة كل اكتشاف جديد.

search