بوابات "الدرجات السهلة".. شرعية قانونية ولكن!
لم يعد خافيا على أحد أن مشهد الدراسات العليا في العالم العربي يشهد ظاهرة آخذة في التوسع والانتشار، متمثلة في الأكاديميات والمعاهد التابعة للمؤسسات العربية، بل وبعض الكليات الرسمية داخل الجامعات، التي تحولت - من حيث لا ندري أو ندري- إلى بوابات خلفية للالتحاق بالدراسات العليا ونيل درجتي الماجستير والدكتوراه، بعيدا عن المسارات الأكاديمية المألوفة التي تقوم على الجهد والانضباط والبحث الحقيقي.
ولكي أكون منصفًا، لا أنكر أن هذه الكيانات قائمة على هياكل علمية وإدارية واضحة، وتحمل تراخيص قانونية ومعادلات جامعية، ولها كوادر وأساتذة ومحاضرات وامتحانات، فهي من حيث الشكل تمتلك كل أدوات الشرعية.
لكن السؤال الجوهري الذي لا مفر من طرحه: هل تنتج هذه المؤسسات علما حقيقيا؟ هل ترفد البحث العلمي بأفكار مبتكرة ومساهمات جادة؟ أم أنها أصبحت مصانع أنيقة لتفريخ شهادات مزخرفة تحمل ألقابا بلا مضمون؟ إن ما يحدث في بعض هذه الأكاديميات والمعاهد - وأقول بعضًا لا كلا- يمثل إهانة للعلم بكل المقاييس، فحين يتحول البحث العلمي إلى وسيلة للوجاهة الاجتماعية أو للتفاخر في بطاقات التعريف والسير الذاتية، فنحن أمام كارثة فكرية وأخلاقية تضرب في صميم الوعي الثقافي للأمة.
هناك من يشتري مشروعه البحثي كما يشترى كتاب أو قطعة أثاث، وهناك من يناقش رسالة علمية لم يقرأها أصلا، في احتفال صاخب يتبادلون فيه التهاني وكأنهم خرجوا من معركة فكرية منتصرة، بينما الحقيقة أنهم اغتالوا البحث العلمي تحت الأضواء والكاميرات.
المشكلة لا تكمن فقط في الأفراد، بل في منظومة كاملة سمحت بأن تتحول الدرجات العلمية إلى سلعة تجارية مربحة، وللأسف، يرفع الجميع شعار الشرعية وكأنها صك غفران يبرر التفاهة، بينما الشرعية العلمية لا تقاس بالترخيص، بل بما ينتج من علم، وبما يقدم من فكر جاد يثري المجتمع.
إن أخطر ما في الأمر أن مفهوم العدالة الأكاديمية تآكل؛ فكيف نساوي بين من سهر الليالي في المكتبات، وبين من كتب له آخرون بحثا في مقهى أو عبر الإنترنت؟ كيف نمنح الدرجة نفسها، واللقب نفسه، لمن اجتهد ولمن اكتفى بالمال؟ إنها مهزلة علمية مكتملة الأركان، وظلم فادح بحق الباحثين الحقيقيين الذين ما زالوا يؤمنون أن البحث مسؤولية قبل أن يكون لقبًا.
لست ضد هذه المؤسسات من حيث المبدأ، بل ضد أن تستغل واجهة التعليم لتسويق الوهم، لست ضد أن تتاح فرص جديدة للتعلم، ولكن بشرط أن تُبقي على قدسية البحث العلمي الذي يقوم على الجهد، والمنهج، والتحقق، والنزاهة.
نعم، أطرح أسئلة مشروعة، ولكنها مؤلمة، ما قيمة شهادة لا تضيف إلى العقل العربي فكرة واحدة جديدة؟، ما جدوى لقب دكتور لا يعرف صاحبه معنى البحث ولا أدواته؟ ومن يحاسب على هذا التراكم الخطير من الرسائل المسروقة والمكررة والمفرغة من المعنى؟
إن ما يحدث ليس تعليمًا بل تفريغ منظم لمفهوم البحث والتطوير، وتحويل الفكرة إلى هيكل بلا روح، وهو في جوهره استهزاء بالعلم وإهدار لمستقبل الأجيال القادمة التي ستنشأ على أن المعرفة تُشترى لا تكتسب، وأن اللقب يمنح لا يستحق.
ليست القضية دفاعًا عن فئة ضد أخرى، ولا هجوما على جهة بعينها، بل دفاع صريح عن الجدية، والضمير، والصدق العلمي، فالأمم لا تبنى بالشعارات ولا بالأوراق المزخرفة، بل بجهد العقول التي تفكر وتبدع وتُضيف.
إن أخطر ما يمكن أن نصل إليه أن يصبح العلم مجرد ديكور فاخر لتغطية فراغٍ معرفي هائل، وأن تتحول الرسائل الأكاديمية إلى أرشيف بلا روح يكدس فوق الرفوف دون أن يغيّر شيئًا في الواقع.
لقد آن الأوان لأن نقولها بصوت عالٍ: من أراد الشهادة فليستحقها، ومن أراد اللقب فليدفع ثمنه من الجهد، لا من المال، أما من يستهين بالبحث العلمي، فهو لا يخدع الآخرين بقدر ما يهدم آخر ما تبقى من احترامنا للعلم والمعرفة.
لذلك فإن الدفاع عن البحث العلمي اليوم ليس ترفًا بل واجب وطني وأخلاقي، ومن أراد أن يدرس فليدرس بجد، ومن أراد اللقب فليستحقه، ومن أراد الاعتراف فلينتج فكرا حقيقيا يضيف لا يكرر، أما من يرى في الماجستير والدكتوراه مجرد ورقة للمنظرة الاجتماعية فهو لا يخدع المجتمع بقدر ما يهدم آخر ما تبقى من احترام للعلم والعلماء.
لقد آن الأوان أن تتدخل وزارات التعليم العالي والمجالس العلمية لمراجعة هذه الظاهرة بصرامة، فالمسألة لم تعد هامشية، بل تمس مستقبل التعليم العربي ومصداقيته أمام العالم، فإما أن نعيد للعلم هيبته، أو نتركه يغرقنا جميعًا في بحر من الزيف الأكاديمي والشهادات الفارغة.
إن ما أطالب به ليس إقصاء ولا هجوما، بل جودة حقيقية تحفظ للعلم مكانته وللباحثين جهدهم، لا أطالب بإغلاق الأكاديميات ولا حرمان أحد من فرصة التعلم، وإنما أطالب بأن يكون لكل شهادة قيمة ومعيار، ولكل درجة أكاديمية وزن علمي واضح، المطلوب ببساطة أن تكون هناك رقابة صارمة، وتقييم موضوعي، ومواصفات جودة دقيقة في البحث العلمي، حتى لا تتحول الدرجات العليا إلى مجرد أوراق تباع، بل تظل عنوانا على الإبداع والجهد والتميز، فالعلم لا يحترم إلا حين يقاس بالجودة، لا بالعدد ولا بالمظاهر.
الأكثر قراءة
-
قبل طرحها بالأسواق، ضبط 1200 كيس سناكس منتهي الصلاحية بمخزن غير مرخص في الأقصر
-
ابتلع لسانه، بطولة مسعف تنقذ لاعب نادي سكر أرمنت من الموت
-
افتتاح الإدارة العامة لمرور الأقصر بطيبة الجديدة غدًا
-
موعد صرف معاشات نوفمبر 2025 بعد الزيادة الجديدة وخطوات الاستعلام
-
لغز جريمة فيصل، الأمن يكثف جهوده للعثور على الأم وطفلها المفقود
-
تصادم 8 سيارات وأتوبيسين على طريق السويس وأنباء عن وقوع ضحايا ومصابين
-
جدول امتحانات شهر أكتوبر 2025 لجميع المراحل التعليمية بالفيوم
-
تفاصيل جديدة بكارثة السويس الصحراوي ومصرع وإصابة 48 شخصًا، ما سبب الحادث؟
مقالات ذات صلة
سبوبة الدراسات المهنية.. أكاذيب علمية وألقاب بلا قيمة
15 أكتوبر 2025 11:06 ص
الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي.. بين فرص الثورة وخطر البيانات المزيفة
08 أكتوبر 2025 05:53 م
معيد سوهاج المتفوق.. لماذا كان لا بد من الضجة ليسترد حقه؟
24 سبتمبر 2025 03:20 م
سطو الجهلة على عرش الخبراء.. سقوط هيبة التخصصات الأكاديمية
10 سبتمبر 2025 03:22 م
أكثر الكلمات انتشاراً