الأحد، 07 ديسمبر 2025

11:24 ص

التسويق الأكاديمي.. كيف نبنى قيمة برامجنا في العصر الرقمي؟

لم يعد التسويق الأكاديمي للبرامج الجامعية ترفا مؤسسيا أو نشاطا ثانويا يمكن تأجيله، بل أصبح أحد أعمدة بقاء الجامعات وقدرتها على المنافسة والاستمرار في عصر تحكمه المنصات الرقمية وتتشكل فيه قرارات الطلاب عبر الشاشات أكثر مما تتشكل داخل الحرم الجامعي.

إن الجامعة التي لا تمتلك سوقا رقميا حقيقيا لبرامجها الأكاديمية، ولا تحسن عرض منتجها التعليمي بلغة العصر، إنما تحكم على هذه البرامج بأن تصبح بلا قيمة فعلية في وعي الجمهور، مهما بلغت جودتها علميا أو تاريخها عريقا. 

إن غياب السوق الرقمي للبرامج يعني ببساطة غياب الوجود من الأساس، فالطالب اليوم لا يبحث في الكتيبات الورقية ولا ينتظر المعارض التقليدية، بل يتجه مباشرة إلى الهاتف، يقارن، يقرأ، يشاهد، ويسأل عبر منصات التواصل، وحين لا يجد مادة وافية تعرفه بالبرامج بصورة احترافية، أو يجد محتوى باهتا لا يتجاوز صورا نمطية للمدرجات، فإنه يصرف النظر ببساطة ويتجه إلى جامعة أخرى تعرف كيف تقدم نفسها، حتى وإن كانت أحدث تاريخا وأقل عمقا علميا. 

ومن هنا تتضح خطورة الوضع، فضعف التسويق الأكاديمي لا يؤدي فقط إلى تراجع الصورة الذهنية للجامعة، بل ينعكس مباشرة على أعداد الطلاب، ويؤدي إلى عزوف متزايد عن الالتحاق بالبرامج، وهو ما يعني تراجعا في الموارد، وضعفا في الاستدامة، وخللا في دورة التطور بأكملها.

لا يمكن أن تطالب جامعة بالتوسع والابتكار وهي في الوقت نفسه لا تجيد التعريف بما تملكه، ولا تحسن مخاطبة جمهورها الحقيقي بلغة يفهمها ويثق فيها. 

التسويق الأكاديمي المطلوب اليوم ليس مجرد إعلان عن مصاريف أو شروط قبول، وليس عرضا استهلاكيا سطحيا يقوم على لافتات وصور دعائية، بل هو منظومة متكاملة تبدأ من بناء هوية واضحة للبرنامج، وتمر بشرح رسالته وأهدافه وفرصه وسوق العمل المرتبط به، وتصل إلى تقديم نماذج حية من خريجيه وتجاربهم المهنية، هو خطاب معرفي وإعلامي في آن واحد، يخاطب العقل والطموح، ويقدم للتعليم بوصفه استثمارا في المستقبل لا مجرد شهادة. 

كما أن الفارق الحقيقي بين التخصصات لا يمكن أن يظل حبيس الأدلة الجامعية الصامتة، بل يجب أن يظهر في مواد رقمية احترافية توضح طبيعة الدراسة، ونوعية المهارات المكتسبة، وطبيعة التدريب، وفرص التوظيف، والمزايا التنافسية لكل برنامج.

الطالب اليوم لا يريد أن يعرف فقط ماذا سيدرس، بل لماذا هذا التخصص تحديدا، وماذا سيضيف إلى مستقبله، وأين سيضعه بعد التخرج في خريطة سوق العمل. إلى جانب ذلك، يمثل الإرشاد الأكاديمي أحد أعمدة الجذب والاستبقاء داخل أي مؤسسة تعليمية حديثة، فلا يكفي أن نعلن عن البرامج ثم نترك الطالب وحيدا يتخبط بين اللوائح والاختيارات.

المطلوب وجود منظومة إرشادية حقيقية يقودها أشخاص مؤهلون، لديهم وقت ومسؤولية واضحة لدعم الطلاب من لحظة الاستفسار الأولى وحتى ما بعد التخرج، دعم معرفي ونفسي ومهني، وليس مجرد وحدات شكلية تؤدي دورا إداريا باردا لا يتجاوز ختم الاستمارات. 

وما يحدث في كثير من الجامعات اليوم داخل هذه الوحدات يعكس أزمة حقيقية في الفهم والتطبيق، حيث يتم اختزال الإرشاد في مكاتب مغلقة لا يعرف عنها الطلاب شيئا، أو في أدوار هامشية لا تؤثر في القرار ولا تصنع الفارق. 

في حين أن الجامعات المتقدمة عالميا تقوم على منظومات إرشاد ديناميكية تقود الطالب وتوجهه وتساعده على اختيار مساره والاستفادة القصوى من سنوات دراسته. 

وإذا انتقلنا إلى مقارنة الواقع المحلي بنماذج جامعات نجحت في بناء اسمها عبر التسويق الذكي، سنجد أن الأمر لم يكن وليد ميزانيات ضخمة بقدر ما كان نتاج رؤية وعقلية إنتاجية ترى في البرنامج منتجا معرفيا يجب تقديمه باحتراف، جامعات حملت أسماءها إلى الفضاء الرقمي بثقة، وصنعت لنفسها حضورا طاغيا، ونجحت في جذب طلاب من الداخل والخارج لأنها فهمت مبكرا أن المعركة لم تعد داخل الأسوار، بل على محركات البحث ومنصات التواصل. 

ولا يمكن تجاهل أن أحد جذور الأزمة يكمن في عقلية بعض الأساتذة الجامعيين التقليديين الذين لا يزالون ينظرون إلى التسويق بوصفه فعلا تجاريا ينتقص من هيبة العلم، بينما الحقيقة أن التسويق هنا ليس بيعا للعلم بل تعريفا به وحماية له من العزلة والتهميش، هذه العقلية التي ترفض التغيير وتتحصن خلف مناهج ثابتة وأدوات قديمة، تمثل عائقا حقيقيا أمام أي محاولة تحديث، لأنها تفصل بين المعرفة ووسائل تقديمها، وكأن المحتوى قادر وحده على العبور دون وسيط عصري. 

إن التطور الي لم يعد خيارا مؤجلا، بل ضرورة وجودية تفرضها المنافسة الشرسة وتحولات وعي الأجيال الجديدة، والجامعة التي لا تطور أدواتها الإعلامية، ولا تعيد بناء خطابها الرقمي، ولا تستثمر في فرق متخصصة تجمع بين الإعلام والتسويق الرقمي، إنما تترك مستقبلها للمصادفة. المطلوب إرادة مؤسسية تعترف بالخطر وتتحرك نحوه بشجاعة، وتضع التسويق الأكاديمي ضمن استراتيجيتها لا على هامشها. 

قيمة البرامج الأكاديمية لا تقاس فقط بجودتها العلمية، بل بقدرتها على الوصول، والتأثير، والإقناع، ومن لا يمتلك سوقه الرقمي، ولا يحسن مخاطبة جمهوره، ولا يواكب تحولات العصر، سيجد نفسه خارج المنافسة مهما امتلك من تاريخ، لأن العصر لا يعترف إلا بمن يجيد الظهور بقدر ما يجيد الإنتاج.

search