الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025

05:00 ص

أزمة اللغة العربية في الدراسات العليا بين المتشدقين والمستغربين

تعيش اللغة العربية اليوم ونحن على مقربة أسبوعين من الاحتفاء بها، أزمة حقيقية في أروقة الجامعات ومراكز البحث، ليس لأنها عاجزة عن مواكبة التطور العلمي، بل لأن بعض أبنائها فقدوا الإيمان بها، فصاروا ينظرون إليها نظرة استعلاء وازدراء، وكأنها لا تليق بالبحث الرصين أو التعبير الأكاديمي الرفيع، وللأسف، أصبح البعض يتفاخر بإتقان لغات أجنبية أكثر من اعتزازه بلغته الأم، معتقدا أن البحث لا يعد بحثا ما لم يكتب بلغة الآخر، متناسين أن الفكر لا قيمة له إن لم ينطلق من الذات.

إن المأساة الحقيقية ليست في اللغة، بل في العقول التي هجرتها، فالمكتبة العربية ليست فقيرة كما يزعمون، بل تزخر ببحوث ودراسات علمية عميقة في شتى مجالات المعرفة، لكنها تحتاج إلى من ينقّب فيها بعين الباحث الجاد لا بعين المتكبر المتعالم، فكم من دراسات عربية تناولت قضايا تنموية واقتصادية وسياسية بعمق لا تجده في عشرات الدراسات الأجنبية، وكم من فكر عربي أصيل تم تجاهله فقط لأن صاحبه كتب بالعربية!

المؤلم أن الصلف الأكاديمي أحيانًا، والكسل العلمي أحيانا أخرى، جعلا بعض الباحثين يتجهون نحو الأسهل لا نحو الأعمق، فيستسهلون نسخ الدراسات الأجنبية الفارغة من الواقع، ويتركون كنوز الفكر العربي الحي الذي ينبض بهموم مجتمعاتهم، إنهم يهربون من الجهد الذي يتطلبه إنتاج المعرفة الحقيقية، فيتسترون خلف بريق المصطلحات الغربية ليُخفوا فراغهم وضعف أدواتهم.

 لقد اكتشفت بنفسي بعد عملي الآن في مهنة القراءة والكتابة على مدار 15 عاما، وبعد سنوات من القراءة والمقارنة، أكتشفت أن كثيرا من الأبحاث التي يقدسها البعض لا تقوم على أسس متينة، بل تعيد صياغة أفكار مبتورة وتقدمها في قوالب لغوية براقة، بينما نجد في المقابل دراسات عربية غاية في العمق والمنهجية، لكنها تهمّش فقط لأنها كتبت بلغة الضاد، تلك هي المفارقة الموجعة التي يعيشها العقل العربي بين انبهارٍ أعمى بالغرب وتجاهلٍ جائر للذات.

إن من ينتقص من العربية إنما يعلن عجزه، لا عن اللغة بل عن الفكر، فالعربية لم تقصّر يوما في نقل العلوم أو توليد المعارف؛ هي التي حملت الفلسفة والطب والفلك والرياضيات إلى العالم حين كانت أوروبا غارقة في ظلام جهلها، فكيف يعقل أن تتهم بالعجز بعد أن كانت لغة الحضارة؟ إن من يزعم أن العربية لا تصلح للبحث العلمي هو إما جاهل بتاريخها أو متعال على هويته.

ولعل نموذج الأستاذ الدكتور جودة عبد الخالق، وزير التموين الأسبق وأستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، هو خير شاهد على أن المدافع عن لغته ليس متقوقعا، بل واثق من قدرته العلمية، هذا الرجل ظل طوال مسيرته الأكاديمية مؤمنًا بأن الدفاع عن العربية ليس تعصبا، بل واجب وطني وعلمي، لأنها لغة الفكر وليست مجرد أداة للتعبير.

حظي العالم الجليل الدكتور محمود السعيد نائب رئيس جامعة القاهرة للدراسات العليا والبحوث، بإشادة واسعة تقديرا لموقفه الداعم لحقوق الطلاب وخاصة الوافدين منهم، بعد دفاعه الواضح والحاسم عن حرية الطالب في اختيار لغة الامتحان التي تناسبه، فقد أثبت بحكمته وفهمه العميق لطبيعة العملية التعليمية أنه نموذج للمسؤول الأكاديمي الذي يضع مصلحة الطالب في قلب أولوياته، ويؤمن بأن العدالة التعليمية تبدأ من احترام قدرات الطلاب وتسهيل سبل نجاحهم، وجاء موقفه ليعكس رؤية تقدمية تحترم التنوع وتدعم جودة التعليم، مما جعله محل تقديرٍ كبير داخل الأوساط الجامعية وخارجها.

إن أزمة اللغة العربية في الدراسات العليا ليست أزمة مصطلح، بل أزمة وعي وانتماء، الأزمة فيمن استبدل الهوية بالزيف، والجهد بالادعاء، والعمق بالسطحية. إننا بحاجة إلى أن نستعيد احترامنا للغتنا، لأنها ليست تراثا نحتفظ به في المتاحف، بل وعاء فكرٍ وحضارةٍ قادرة على التجدد والإبداع، لقد آن الأوان أن نكسر عقدة "الخواجة" الأكاديمية، وأن نعيد الاعتبار للغة التي تحملنا وتحمل فكرنا، فالذي لا يكتب بلغته لا يملك فكره، والذي يستعير لسان غيره ليعبر عن ذاته، يظل تابعا مهما حاول أن يبدو عالمًا، العربية ليست لغة الماضي، بل لغة المستقبل لمن يؤمن بعقله وهويته معًا.

من المدهش والمؤلم في آنٍ واحد أن نرى بعض رؤساء الأقسام في كليات العلوم الاجتماعية يرفضون السماح للطلاب بأداء امتحاناتهم باللغة العربية، وكأننا في مؤسسات غريبة عن أوطانها، هذا الرفض لا يعكس حرصا على جودة التعليم، بل يكشف عن أزمة هوية فكرية داخل بعض النخب الأكاديمية التي فقدت الثقة في لغتها الأم، إن هؤلاء، بدل أن يكونوا حماة للمعرفة الوطنية، صاروا بوابة لاغترابها، متناسين أن الجامعة المصرية والعربية قامت أصلا لتخدم مجتمعاتها بلغتها وثقافتها.

والأسوأ أن هذا التوجه يرسخ طبقية علمية بين من يتقن الإنجليزية ومن لا يتقنها، وكأن التفوق صار مرهونا بلغة الغير لا بعقل الباحث وقدرته على التحليل والفهم، إن رفض امتحان الطلاب بالعربية ليس إجراءً أكاديميا بريئا، بل مؤشر خطير على استلاب ثقافي يهدد روح البحث العلمي ويحوّل المعرفة إلى ترفٍ لغوي بدل أن تكون أداة لبناء الوطن.

search